الأحد، 29 مايو 2011

ملل يومي

الأيام تمر متشابهة .. قد يكون بعضها أكثر إيلاما من الآخر و لكنها في مجملها متشابهة .. تصحو على رنات المنبه .. تظل مترددة ما بين الصحو و النوم لمدة نصف ساعة و أحيانا لساعة كاملة .. ثم تنهض من سريرها متكاسلة بعد نقاشات طويلة بينها و بين نفسها تمتد أحيانا إلى أحلامها في تلك الغفوات المتقطعة بين كل رنة للمنبه و التي تليها " سأكلم مديري و أعتذر اليوم .. لا أرغب في البقاء بالمنزل .. لو بقيت فلن يسمح لي بالنزول .. إلى أين تذهبين ؟ فلنخرج سويا .. أنت كل يوم بالخارج" – مع أنها لا تذهب سوى إلى العمل ثم تعود إلى المنزل، كل صديقاتها أصبحن أمهات و لهن بيوت يُسألن عنها أما هي فلا زالت لدى أهلها  فمع من ستخرج؟ – ".. أفٍ لابد لي من الذهاب إلى العمل" .. هكذا تستكمل المناقشة .. ثم تعاود التفكير مرات و مرات و في كل مرة يقطعها صوت رنين المنبه إلى أن تسكته و تنهض .. تغسل وجهها و أسنانها .. أحيانا تطيل النظر إلى وجهها في المرآه و أحيانا أخرى لا تتذكر إن كانت نظرت إليه من الأساس .. في طريقها إلى حجرتها لاستبدال ملابسها تصطحب كوب ماء لتشربه على مهل و هي تنظر إلى قطع الملابس التي ملتها .. أيهم تضع اليوم .." عدنا إلى الحيرة المملة .. سأكلم المدير و أعتذر .. أو أستأذن في الذهاب متأخرة .. لا لن أفعل .. انتهى،  الوقت لا يسمح بهذا الهراء .. علىّ أن أسرع لأتجنب الخصومات" .. تمتد يدها إلى قطع الملابس التي ملتها .. تقلب فيها ثم تلتقط ما اتفق لها و ترتديه .. ها هو الحذاء .. الحقيبة .. الهواتف المحمولة .. المفاتيح .. تمام .. تبقى رشفة في كوب الماء تزدردها سريعا لتنطلق .. أحيانا تبدأ في ذلك الوقت حركة خارج حجرتها .. في الغالب يكون والدها .. "سيبدأ نفس الحوار اليومي
-(ألن تأكلي شيئا قبل النزول؟)
– ( لا، لا أستطيع و ليس هناك وقت عليّ أن أنطلق)
-  (إن أمك أعدت الطعام .. كلي أي شيء قبل أن تذهبي)
- (لن ينفع يا أبي .. إنني متأخرة )– تقولها بصوت حاسم لتوقف سيل الكلام فلا هي تملك المزاج و لا الوقت .. و الحوار مكرر و لا جديد في الأمر .. يتململ الأب و يغمغم بكلمات غير مفهومة .. غالبا ما تكون بعضا من تلك الشتائم الأبوية التي لا يمارسها سوى الأب المصري الأصيل.. بالنسبة لها ما عاد هذا الأمر يهم .. حينما كانت صغيرة كانت تؤلمها تلك الكلمات و أحيانا ما كانت تشعرها أنه لا يحبها ..
تنطلق مسرعة متمنية أن تجد الميكروباص بسهولة و ألا تقف طويلا أو تضطر إلى ركوب تاكسي تنقده عشرة جنيهات على الصبح .. و في رأسها أفكار كثيرة تبعث على الاكتئاب .. تحاول أن تتجاوزها فتنجح أحيانا و تفشل أحايينا .. تلقي بنفسها على الكرسي فيما توفر لها من وسيلة مواصلات .. و غالبا ما يتسلط صوت الكاسيت على رأسها المتعب الذي أجهدته الأحلام القلقة المتوالية طوال الليل .. ينبعث منه صوت إليسا، وائل جسار‘ حسين الجاسمي أو أيا كان .. ينبعث الصوت شاكيا أو باكيا أو حالما محبا .. كلها حالات عايشتها .. و كثيرا ما تعاودها الذكريات الجميلة أو الحزينة .. كلاهما أصبح مؤلما بالنسبة لها ..
ها هي تصل .. توقع و تتأكد من أنها وصلت في الموعد .. ترسم ابتسامة مصطنعة على وجهها و تلقي تحية الصباح على الزميلات و الزملاء .. تمازح بعضهم و تسأل عن أحوال البعض الآخر و ما بين هذا و ذاك تكون قهوتها قد أعدت .. تفتح جهازها البطئ و ترتشف رشفات من القهوة بعد أن تمررها تحت أنفها كما كان يفعل هو .. كان يمرر الفنجال تحت أنفه باستمتاع ثم يبدأ بشرب القهوة بعد أن تكون ابتسامة رضاً مؤقتة ارتسمت على وجهه ثم ما تلبث أن تختفي لتعود إليه تلك النظرة الزجاجية .. و يعاود وجهه الجمود .. "يا الله لم أذكر هذا الآن .. أفٍ لك من ذاكرة .. ماذا لو فقدتك بشكل انتقائي .. يا سلام .. وقتها سأختار أن أتخلص من كل هذا الألم لأكون أنا من جديد .. دعك من هذا العبث لديك بريدا يجب الرد عليه" تبدأ في ممارسة عملها بهمة أحيانا و بتكاسل أحيانا .. تختطف بعض دقائق لترى ما الجديد على الفيسبوك من أخبار و حالات الأصدقاء .. قد تعلق هنا أو ترد على تعليق هناك .. أصبح ارتباطها بالعالم الافتراضي أقوى من ارتباطها بالواقع .. " هنا الأصدقاء كثر و متواجدون و  متفاعلون .. إن لم يجب هذا فآخر يجيب أو يعلق .. لا حاجة لاستجدائهم .. لا حاجة لإجراء مكالمة هاتفية تستشعر خلالها انشغال الطرف الآخر فتنسحب في هدوء رغم احتياجها الشديد للكلام .. لا مواعيد و لا أعذار و لا اعتذارات .. كل سيكتب وقتما يتواجد و دائما هناك من يتواجد .. و من لن يعلق فلن يُلاحظ غيابه في كم التعليقات و الردود و الحالات المكتوبة و الأخبار الطريفة و السياسية و الاقتصادية .. تظل ما بين الهاتف و البريد إلى أن ينتهي يوم العمل بمشاكله و انجازاته .. و تبدأ رحلة صراع أخري .. " لا أريد الذهاب إلى البيت .. و لكن يجب أن أذهب .. لو تأخرت سأسمع كلاما يضايقني .. في هذه المرة سيكون من أمي  .. و هي لا تكتفي بالغمغمة كما يفعل أبي .. آه .. ستظل تؤنبني و توبخني تقول كلاما أحفظه عن ظهر قلب .. أمي توصف بأنها امرأة عسكرية .. كل شئ لديها يجب أن يسير وفق قواعد ثابتة وضعتها هي و آمنت بها و علينا أن نعتبرها السبيل للنجاة .. أحيانا أشفق عليها لأنها تبقى وحيدة بالمنزل طوال النهار .. و لكنني أنا أيضا أريد بعض التنفس .. أريد وقتا مع نفسي و هذا لا يوجد في بيتنا .. هذا أمل لا ينال في أسرتنا .. " أحيانا تؤثر السلامة و تذهب مباشرة إلى المنزل و أحيانا أخرى تترك لقدميها العنان تنطلقان في شوارع المدينة علّ الهواء و اختلائها بنفسها يهدئان من هذا المرجل الذي لا يتوقف عن الغليان بداخلها .. أحيانا تهدأ و أحيانا يطاردها الهاتف .. " هذه أمي .. ستسأل أين أنت الآن .. و سوف أجيب .. و سينطلق صوتها عبر الهاتف إلى أذني مؤنبا و مسفها و لائما , أحيانا شاتما .. ستنتزع محاولتي للهدوء من جذورها .. و ربما تريدني أن أبتاع لها شيئا في طريق عودتي .. هذا أيضا أحيانا يضايقني لأنه يصادر تلك المحاولة للهرب من الروتين .. يجب أن أحضر ما تريد و أعود سريعا إلى البيت"
تدخل من الباب تلقي التحية .. قد تستكمل الأم وصلة التوبيخ ان كانت قد تأخرت .. أو تمر هذه اللحظة في سلام ان كانت عائدة في موعدها المعتاد .. تبدل ملابسها.. تعد المنضدة للطعام .. تجلس و أمها .. تشرع أمها في الحديث عن يومها و ما دار فيه .. تستمع و ترد أحيانا .. تحاول الإبقاء على صمتها لأنها تخشى من انفجارة بين الفينة و الأخرى .. ينتهي الطعام .. تغسل الأطباق و تعد الشاي ثم تجلس الى كمبيوترها النقال تتصفح الجرائد أو تبحث عن معلومة تشغلها أو تتصفح الفيسبوك .. تواجه امتعاض أمها بالصمت .. ينتهي اليوم .. تستعد للنوم .. جسدها منهك و لكنها أيضا لا تريد النوم .. لم يعد النوم مريحا لها .. فبمجرد أن تضع رأسها على الوسادة يأتيها طيفه .. بحنان أو بقسوة  .. بذلك الوجه الزجاجي أو بتلك العينين العاشقتين .. في كل الأحوال هو عذاب .. فهي تشتاق إلى حبه .. و لا تحتمل قسوته .. كلاهما يعذبها .. الحرمان من حبه يعذبها .. و تحملها لقسوته لسنوات أيضا يؤلمها .. ما بين الألمين قد تذرف بعض الدموع .. و قد يمتد الألم إلى أحلامها .. فتراه دائما عازفا عنها كما كان لفترة طويلة .. و يؤلمها ثانيا و ثالثا و رابعا حتى في الحلم .. كأنما قرر أن يتسلط عليها إلى أن تموت .. تساءلت طويلا لم فعل بهما هذا .. تساءلت طويلا إن كان لم يحبها يوما فلم أتاها من المبتدأ؟ .. أسئلة تحير عقلها و لا أحد يعطيها الجواب الشافي و لا حتى هو- إن فرض و تحادثا ثانية- سيجيب و لن يجيب كما كان يفعل دائما يتركها لحيرتها معطيا إياها إجابات ليست إجابات .. إنما هي مزيد من علامات الاستفهام                                   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق