السبت، 26 أبريل 2014

شوارع مدينتي

لشوارع مدينتي همهمة و همس .. لا يسمعهما إلا من عشقها و أحس بنبضها المتسارع من كثرة ما تحمل شوارعها و أزقتها من حكايات و أحلام و أفراح و آلام .. يحمل كل شارع جزءً من القصة تتتبعُها حين تتتبع خطوات صاحبها المتنقلة من شارع إلى شارع و من حي إلى حي .. تمنيت يوما أن أفهم تلك الهمهمات و ذلك الهمس  ..

تعلم مدينتي أنني أعشقها حد الجنون و لكنها تأبى أن تفك طلاسم همهماتها لأذني أو حتى لقلبي .. ربما لأنها تعلم أنني أبحث عن باقي قصتي بين قصصها .. ربما لأنها تخشى أن يحزنني ما ستخبرني به!!!

أتجول بين شوارعها القديمة .. تئن البيوت تحت السنين المتراكمة . تكسرت الشوارع و ضاقت الأرصفة و لازال الهواء يحمل سحرا لا يقاوم رغم الاهمال الذي طال مدينتي عبر السنين .

في أي شارع تسير ستصل حتما في وقت ما إلى البحر .. سيلفح هواؤه وجهك و ستقع أسيرا لهوى مدينتي التي وقع في أسر هواها الكثيرين عبر السنين. يحمل هواءها عبقا تراكم خلال عمرها الممتد و اختلط برائحة البحر الآتي من حضارات الشمال العريقة في القدم و ازدادت رائحته سحرا حين امتزج بهواء مدينتي متعددة المشارب .

أتعرف؟ !! أحيانا أتتحسس خطواتك و أنا أسير في دروب مدينتي .. أحيانا يساورني إحساس غريب أن خطوتي وقعت فوق خطوتك التي لا أعرف متى خطوتَها .. و لكني أستشعرك في تلك اللحظة كأنني أسير خلفك أتابع خطواتك المتسارعة .

متسارع هو إيقاع مدينتي في هذه الأيام كوقع خطواتك .. حينما كنت صغيرة كانت الأيام أطول .. و كان الحلم ممكنا و كان بيتي محاطا بحديقة جميلة ألهو فيها مع الفراشات و أستمتع بألوان الزهور و تحولها إلى ثمار حلوة المذاق .. صعبة المنال أحيانا كثيرة ..
 كان الفراغ خارج حديقتنا كبيرا و جميلا يسمح لي بتأمل الأرض و السماء و تغيراتهما في مختلف الفصول. كان الهدوء جميلا ، يمنحني مساحة للاستماع إلى أصوات الطبيعة و التمتع بها .. لولا الهدوء ما عرفت صوت أوراق الشجر حين يداعبها النسيم .. ذلك هو الصوت الأقرب لوصف صوت فيروز.

أحيانا أشعر أن قلب مدينتي خال كقلبي .. ما زالت تبحث عن فارسها المغوار لينقذها من الألم المتواتر و المتصاعد يوما بعد يوم .. لينقذها من براكين الدم التي تتفجر كل يوم في شوارعها
منذ ثارت بلدتي و في كل يوم دم جديد يراق على أرض مدينتي و مدن أخرى .. أسمع أنات الشوارع كأنما هو صدى أنين سكان البيوت المكلومة.
موجات الألم المتصاعدة إلى السماء  أحالت لون سمائي إلى الرمادي حتى في الأيام الكثيرة المشمسة .. تبقى السماء رمادية .. كأنما تستعد للاتشاح بالسواد الدائم.

الخطوات المحمومة، إما هربا أو بحثا أو مطاردة تجعل أنفاس مدينتي متسارعة .. تقتل لحظات التأمل الجميل .. تدهس الحلم الضنين بلحظات هدوء لالتقاط الأنفاس .. لا شيء إلا القتل أو الخطف أو الهرب و المطاردة .. كلها أفعال لا تعطيك فرصة لا للتأمل و لا لالتقاط الأنفاس و لا للحياة.

لا زلت رغم كل هذا أحب التجول في شوارع مدينتي .. رغم اختلاط هوائها برائحة الدم، رغم لهاث شوارعها خلف الأرواح المغدورة ، رغم الخوف الكامن خلف الأبواب و القلق البادي في العيون.

كنت أحب تصوير المباني القديمة في مدينتي خاصة الأبواب و الشبابيك و الشرفات، كنت أشعر أنها تشير لي لألتقط لها الصور .. صوّر لي جنوني أحيانا أنها تتجمل لي لأصورها في انعكاسات مختلفة لنور الشمس و ضوء القمر عليها. كم هي ساحرة تلك المدينة .. معذور هو الإسكندر حين وقع في غرامها.
الآن لا يمكنني التوقف إلا لهدف واضح للناس جميعا ولا يمكنني حمل آلة التصوير فقد تم تجريم التصوير في آخر قانون صدر من مجلس الحكماء الذي صار هو الرئيس و الحكومة و البرلمان و أحيانا الشعب.

مدينتي القديمة تتآكل رويدا رويدا .. فليس البشر وحدهم يُقتلون ، المدن أيضا تُذبح.
يجردونها في كل يوم من مبنى قديم جميل ليزرعوا مكانه كتلة خرسانية تنينية الحجم، تحجب نور الشمس و تخفي بهاء القمر و تقلل انسياب الهواء في الشوارع و رئات البشر. يبقى السؤال يحيرني، أمام كل هذا الموت لمن يبنون تلك البيوت؟ و من سيشتريها؟

لكم أوحشتني آلة التصوير، و لكم أوحشني تتبع خطواتك.

لولا بقاء بعض الأحياء القديمة و مقهاي المفضل لصرت مغتربة في مدينتي.

في طريقي اليومي ذهابا و إيابا أحاول أن أتلمس كل الشوارع القديمة الباقية و أن أملي عيني من مبانيها و شرفاتها و أبوابها، أحاول أن استنطقها لتحكي لي عن ألمها و قلقها و خوفها، أن أغريها لتقص علي من أنباء ساكنيها و المارين بها، أن أستعطفها لتخبرني عن آخر مرة مررتَ بها و كيف كنتَ. نعم لا زلت أنشغل عليك رغم سنوات البعد و رغم الألم و رغم كل شيء .. لا زلت أحيانا أستشعر عينيك تنظران إلي من بعيد، أبحث عنهما فلا أجد سوى وجوه لا أعرفها و عيون غريبة.. أخبئ دمعاتي بين جفوني و أرفع رأسي للسماء في شهيق عميق ممنية نفسي بهدوء ألم صدري و انحسار دمعاتي. أتحسس خطواتي علها تصادف خطوة لك، فأستعيدك و لو لثوانٍ.  تكرار فقدك يؤلمني رغم أنني ما ملكتك يوما، كنت أفقدك و يدي تذوب بين أصابعك .. كنت أفقدك و نحن نسير متجاورين متنافرين في الشوارع، فلطالما نفرت من اقترابي منك و نحن سائران، كنت تفضل اختطاف لحظات القرب المستترة اللاهثة اللامستقرة، و كنت أكرهها لأنها لا تشعرني أبدا بأمانك، لأنها دائما ينقصها الطمأنينة.

الآن مدينتي أيضا ينقصها الطمأنينة، أحاول احتواء أكبر قدر من هوائها في رئتي، و اختزان أكبر قدر من صورها في رأسي، و احتضان من بقي من أناسها داخل قلبي لأنني سأرحل عنها لغيرها، لأن عيشي بها غريبة أقسى علي من العيش غريبة في سواها.

أصعب اغتراب هو اغترابك بين من عرفت و أحببت و شاركت لحظات حياتك. أصعب ألم هو ألم انفصالك عمن وقفت إلى جواره يوما محتميا به و حاميا له.

لم يكن انفصالي عنك هو آخر ما كابدت من ألم، انفصالات أخرى كثيرة حدثت لي بعدك، بعضها كان أكثر إيلاما رغم اختلاف طبيعة العلاقات، و لكن يبقى انفصالي عنك دائما مفصليا في كل قصصي التي أعيش، يبقى هو نقطة البدء في انفصالي عن ذاتي و انغماسي في كل شيء إلا أنا.


سأترك المدينة و البلدة كلها إلى بلد غريب و مدينة غريبة و أناس لا أعرف عنهم أي شيء لعلني أستعيد نفسي التي فقدت، وقتها ربما أعود إلى مدينتي و أحلامي و أناس عرفتهم ذات يوم. 

الجمعة، 25 أبريل 2014

و تستمر الدائرة.

يجلس إلى جواري، يراقبني بشغف و أنا أتلاعب بالأزرار بِحِرَفِيَّة و أفتح له أسرار العالم السحري الذي أصبح نافذته الوحيدة على العالم الخارجي منذ أن صار قيد الإقامة الجبرية بأمر الأطباء. زهده في تعلم الجديد جعل مني مدخله لهذا العالم السحري .. فكان كلما أفسد ترتيب قنوات "الريسيفر " ينظر إلى كطفل كسر لعبته و ينتظر من أمه أن تصلحها له ليستكمل متعته.

كلما رأيت احتياجه العاجز لي تذكرت عجزي واحتياجي له عندما كنت أخطو أولى خطواتي في الحياة.


الجمعة، 11 أبريل 2014

الجيتوهات الجديدة

الجيتو هو اسم يُطْلَق على الأحياء التي تسكنها قلة مهمشة ، و هو الاسم الذي اشتهرت به أحياء اليهود في أوروبا حيث كانت تلك الأحياء كأنها معازل بلا أسوار يعيش بداخلها اليهود منعزلين عن باقي المجتمع لأن أوروبا المسيحية في ذاك الوقت كانت تعتبرهم غرباء لأنهم غير مسيحيين.

في أيامنا هذه يظهر نوع جديد من الجيتوهات و لكن جيتوهات هذا العصر هي جيتوهات اختيارية ، جيتوهات مرفهة تعيش بداخلها طبقات معينة من المجتمع بمعزل عن باقي أفراد المجتمع، و غالبا ما تحوي هذه الجيتوهات الجديدة مدارس و نوادي و أسواق و حدائق و أماكن ترفيه و مطاعم تخص فقط سكان المكان.

الجيتوهات الحديثة تُنفق عليها ملايين و تُنفَقُ الملايين لسُكْناها، و يُعْلَنُ عنها في وسائل الإعلام المختلفة بكثافة شديدة و بخطاب طبقي مُغرِقٌ في الطبقية.

الجيتوهات الجديدة أو الكومباوندات -كما يحب أصحابها تسميتها - هي مجتمعات صغيرة داخل المجتمع الكبير تنفصل عنه  و تتحول إلى كيانات مستقلة تدريجيا، و مع الوقت يصبح سكان هذه الكومباوندات أقل انتماء لمجتمعهم الكبير و أكثر انتماء لمجتمعهم الصغير الذي يسكنه أشخاص من نفس المستوى المادي و غالبا نفس مستوى التعليم و الوظائف أيضا. أغلب سكان هذه الجيتوهات الاختيارية المرفهة يبحثون عن مجتمع لا يشبه المجتمع المصري في شيء، يبحثون عن مجتمع نخبوي (Elite) يغتربون فيه عن المجتمع الأكبر و يصيرون أكثر شبها بالمجتمع الأمريكي و ربما بعض المجتمعات الأوروبية.

هذا الانفصال و الابتعاد عن المجتمع الأكبر يؤدي مع الوقت إلى إغتراب هؤلاء السكان عن مجتمعهم الأكبر و بعدهم عن مشكلاته. فتصبح مشكلات المجتمع الأكبر بالنسبة لهم مشكلات في دول أخرى ، فهم غالبا لن يعودوا يعانون من المشكلات المرورية إلا إذا اضطرتهم الظروف لخوض مخاطرة القيادة إلى وسط البلد حيث الزحام و العوادم ، و لن يشعروا بتردي مستوى التعليم لأن أولادهم في مدارس انتناشيونال مقامة خصيصا داخل الكومباوند، و لن يشعروا بنقص الزيت و السكر و الأرز المدعوم للفقراء لأنهم لن يروهم و لأنهم لا يتعاملون إلا مع الهابرماركتس الموجودة داخل الكومباوند و لأن أغلبهم لديهم خادمات فلبينيات أو أندونيسيات أو نيجيريات فهم لا يرون من المجتمع سوى أشباههم المقيمين معهم في نفس المكان.

و نظرا لأن أطفال هذه المعازل سيكونون بالطبع على مستوى عال من التعليم و سيكون لدى أسرهم علاقات اجتماعية جيدة و غالبا ستكون إقامة بعض الوزراء إلى جوارهم فغالبا سيكون لبعض من هؤلاء الأولاد يوما ما مكانا داخل دوائر صنع القرار في الدولة، ما يعني أن مشكلات المجتمع الأكبر التي لا يعرفون عنها شيئا ستوضع على مكاتبهم ليبحثوها و يجدوا لها حلولا و غالبا ستكون تلك الحلول من قبيل "مش لاقيين عيش ياكلوا جاتو".

إحدى أكبر المشكلات التي ستنتج عن تلك المجتمعات هي الستريوتايبينج أو النمذجة ، حيث يصبح سكان الكومباوند الواحد تنويعات على نموذج واحد فهم يتعاطون نفس نوع التعليم ، يمارسون نفس الأنشطة الرياضية في نفس النوادي ، يذهبون لنفس الحدائق و نفس الهايبرماركتس، في اعتقادي هذا الأسلوب المنغلق من الحياة خلف أسوار الكومباوند سيخلق مجتمعا متشابها فيما بينه و لكنه غريب عن المجتمعات المجاورة له بعيدا عنها من حيث التكوين النفسي و الاجتماعي.

لا زالت الرأسمالية ترسم لنا طرق العيش التي تستفيد منها بشكل أكبر دون النظر للأثر الاجتماعي المتولد عن التغييرات العميقة التي تصنعها في نمط الحياة و أنماط الاستهلاك المستحدثة و في الإنسان الذي يتطور ليتلاءم مع الحياة الجديدة التي تُعلي قيمة المادة على قيمة الإنسان و تبيعه وهم التميز بأغلى الأثمان.