الاثنين، 12 أكتوبر 2015

الغربة والشتاء


جدتي
كان لجدتي من الأولاد سبعة ذكور وثلاث إناث، اغترب عنها كل الذكور وبقيت الإناث لأنهن في زمانهن لم يكن يسمح لهن بالسفر وحيدات، تزوجن جميعًا من رجال من نفس البلدة وعشن حياة تشبه حياة كل نسائها، أما الذكور المغتربين فقد كان لهم شأن آخر.
قبل أن يسافر أي منهم، كانت جدتي تختلي به لتوصيه، ومن بين وصاياها كانت وصية عن الحب– ذلك الشعور المحرم على إناث البلدة-  وصية جدتي ألا يصدق حبه لامرأة في الغربة ولا في الشتاء، فكلاهما يستدعي إلى القلب شجن ورغبة في دفء مُتَوَهَم.
كل أخوالي تزوجوا في الغربة، وزرعوا بذورهم في أرضها وأنبتوا وأثمروا، وحينما عادوا، لم يأكل الوطن حبهم الذي نبت في أرض غريبة.
كنت أحب جدتي كثيرًا، فهي من كانت تقص عليّ حكايات الليل التي ترسم أحلامي، وهي من كانت تعقد لي ضفائر شعري وتصنع لي حلوى السكر والدقيق، وحلوى الخبز والعسل الأسود في ليالي الشتاء الباردة كي أتدفأ.
عاشت معنا جدتي طويلًا، حينما رحلت عنا كنت أقترب من الخامسة والعشرين، كانت امرأة مسموعة الكلمة والرأي وكان الجميع يأخذ بمشورتها، وكنت أقرب أحفادها إلى قلبها، كانت تسمح لي بحضور جلساتها مع نساء البلدة ورجالها لحل نزاع أوتسوية دين أوما شابه، وكنت أسألها وهي تضفر لي شعري الطويل المنسدل عما لم أفهمه في الجلسة، وكنت أفهم شرحها أحيانًا ولا أفهمه أحايينًا أخرى، ولكنني كنت أحب حديثها وأحب مرور أصابعها بين خصلات شعري، لم يصنع لي أحد يومًا ضفيرة محكمة كضفيرة جدتي.
عشت وأمي مع جدتي لأن أبي طلق أمي وأنا لم أزل جنينًا لم يكتمل في أحشائها، كان يمكن لأمي أن تتخلص مني، ولكنها تمسكت بي، ليس حبًا في الرجل الذي تزوجته، بقدر ما كانت رغبة منها في أن تنشغل بقطعة منها تشغلها عن جدتي وتشغل جدتي عنها، فهي أول مطلقة في عائلتنا وهذا أمر لو تعلمون عظيم.
في البدء كانت أمي تخشى عليّ من جدتي، ولكنهم يحكون لي أنها تعلقت بي بمجرد أن وقعت عيناها عليّ ولكنها لم تُبدِ ذلك في بادئ الأمر، ولكنها فشلت في إخفائه حينما بدأت أتحرك حبوًا في البيت وأضحك في وجهها كلما بلغت ساقيها ثم أعتدل لأجلس هناك ألعب وأضحك، لم تكن تمنعني ولم تكن تنهرني أوتخرجني من حجرتها ولا جلساتها، كانت تراقبني وأنا ألعب وتربت عليّ بين الحين والآخر، مع الوقت صرت بالنسبة لها الحب الذي رفضته ثم صار عمادًا لحياتها.
حينما كبرت وقررت أن أغترب لأكمل تعليمي عند أحد أخوالي، كادت تقبل يديّ لأبقى، ولكن إصراري وقتها كان كبيرًا، حينما ودعتها لم أكن أعرف أنني لن أراها مرة أخرى. ألقت جدتي عليَّ تعويذتها السحرية الخالدة:"لا يتعلقن قلبك بأحدهم في الغربة ولا في الشتاء، فالغربة خادعة والشتاء فصل الحنين والغبش". ضحكت في وجهها واحتضنتها وهمست في أذنها:"لم لا تأتين معي يا جدتي؟" ضحكت حتى انفرطت دمعات من عينيها، أسرعت أمسحها بكفي وقبلت وجنتيها عند أثر الدموع ووعدتها، "لن أقع في حب غريب ولن أصدق كلمات حب في الشتاء." ثم قبلت رأسها، وفي اليوم التالي سافرت.
رحلت جدتي بعدها بعامين، حينما عدت لوداعها، قبلت جبينها ووجنتيها وبكيت كثيرًا وأنا ألثم يديها، كم كان جسدها باردًا وضعيفًا، تلك المرأة التي لم تكن يومًا ضعيفة.
غربة وشتاء
كان موت جدتي انكسارًا لي، كنت أشعر أن فراغًا كبيرًا ينمو بداخلي، فرغم اغترابي وبعدي عنها، إلا أن يقيني بأنني سأعود إلى بيتها وأحضانها وحكاياتها ونصائحها التي لم أعمل بمعظمها، كان يعطيني إحساسًا بالأمان والراحة.
كان موتها بمثابة انكسار ثان لي، فانكساري الأول كان أبي الذي لم أعرفه رغم أنني أحمل اسمه.
كان صباحًا شتويًا مائلًا للدفء، أشرقت فيه -على غير العادة- شمس ناعمة الأشعة يختلط دفؤها ببرودة الجو على استحياء، كنت أجلس على أحد المقاعد في حديقة الجامعة، أستمتع برائحة الهواء وبرودته المنعشة-حين أقبل زميلي عَلِيّ-بابتسامته المعهودة وحياني بفرنسيته المميزة كفرنسي من أصل تونسي، كنت أحب لهجته التي يتكرر حرف القاف الفصيح فيها، فهم لا يبدلونها ألفًا مثلنا، في هذا اليوم أخبرني عليّ أنه يحبني، وأنه تردد كثيرًا قبل أن يخبرني لأنه لم ير مني أي بادرة تشجعه، ولكنه في النهاية قرر أن يريح قلبه وأن يحسم الأمر ليسمع إجابتي بدلًا من الانتظار.. كان احمرار وجنتي في تصاعد مستمر، لا أعرف كيف أجيبه، فأنا معجبة به، ولكن لا يمكنني أن أجزم أنني أحبه، كما أنها كانت المرة الأولى التي يواجهني أحدهم بمشاعره تجاهي، تلعثمت قليلًا، ثم قررت أن أخبره الحقيقة أنا أيضًا، وقد كان، وبدأنا نخطو على الدرب، في خلفية كل المشاهد واللقاءات والمغامرات وكلمات الغزل والمشاعر كانت هناك تلك الحكمة التي تقضي بفشل قصة حب بدأت في الغربة وفي الشتاء، كان صوت جدتي يتردد طوال الوقت كموسيقى الخلفية في الأفلام، حاولت مرارًا إسكاته، حاولت مناقشته بالعقل وبالواقع الذي صار مع أخوالي جميعًا، ولكنه أبى إلا أن يكدر لحظات صفوي.
هل كانت جدتي تغار عليّ من علِيّ؟ هل كانت روحها غضبى لأنه صار قريبًا مني؟ وصار هو الدواء لانكسارات نفسي ولإحساسي الدائم بالغربة رغم أنني أعيش هنا أيضًا بين أهلي؟
قررت أنني سأتزوج عليّا رغم أنف جدتي، وقد كان، كان عليٌّ رقيق القلب والمعاملة وكان يحبني كثيرًا، وكنت أحبه فقد صار هو السكن والدار والأهل، وبقي صوت جدتي يتردد في رأسي كطنين لا يهدأ إلا حين أضع رأسي على صدر عليّ لأسمع دقات قلبه.
طلب مني عليّ أن ألجأ لطبيب نفسي ليخلصني من صوت جدتي، ولكنني وقتها رفضت، ربما لأن هذا الصوت كان هو كل ما بقي لي من جدتي، رغم العذاب إلا أنه صار صلتي التي لا تنقطع بها.
احتملني عليّ لثلاث سنوات، كان ألم رأسي فيها جحيمًا لا يتوقف عن تنغيص لحظاتنا الحلوة، فصارت النهاية الحتمية لراحتنا أن ننفصل.
وكان انفصالنا في الشتاء أيضًا،عانيت نوبة حمى طويلة انقطع عني فيها صوت جدتي، ولكنها بعد أيام زارتني في حلم طويل، هدهدتني فيه كما كانت تفعل حينما كنت أمرض وأنا طفلة، واستيقظت في اليوم التالي كأنني لم أمرض أبدًا، ولكن فراغًا كبيرًا كان يحتل صدري ويحيل تنفسي لمحاولة بائسة لملء كرة مثقوبة بالهواء.

بيت الجدة
بعد سبع سنوات من الغياب، عدت إلى بيت الجدة الذي لم يبق فيه سوى أمي، تلك المرأة الصامتة الطيعة أبدًا، كنت أحبها كثيرًا ولكنها كانت دومًا أشبه بطيف يشاركنا السكن، لم تكن تتكلم كثيرًا ولم تكن لها مطالب أبدًا، كنت أحبها وأكره استسلامها البائس لجدتي وللعادات والتقاليد والخرافات، استغرقني الأمر وقتًا طويلًا حتى أدرك أنها صارت طيفًا لتوفر لي الحياة في كنف جدتي، لأجد بيتًا كريمًا أنشأ فيه، جدتي وأنا كنا حجري الرحى في حياة أمي.
أما أبي الذي كان انكسارها وانكساري فلم أره أوأعرفه إلا حينما قرر أهل البلدة الاحتفاء بابنتهم العائدة من بلاد الغربة بشهادة كبيرة، لا يعرفون فيم هي ولا فيم ستفيدهم، ولكنها شهادة كبيرة من عند الأجانب.
طرق باب بيتنا بعد انتهاء الحفل، وطلب من الخادمة أن يقابلني دون أن يفصح عن اسمه، عرفته حينما نظرت إلى عينيه وأنا مقبلة عليه في المضيفة،ابتسامة كبيرة كانت تعلو وجهه، وذراعين مفتوحتين استعدادًا لاحتضاني، نظرة جوفاء كانت تملأ عيني وسلام بارد هو كل ما استطعت أن أقدمه لأب غريب اعتبرني ابنة جاحدة لأنني لم أرتم بين ذراعيه، طلبت من الخادمة أن تقدم له واجب الضيف وشكرته على زيارته، لم أكن أكرهه ولا أحقد عليه، لم أكن أمتلك أي شعور نحوه، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي أراه فيها.
بقي بيت جدتي هو موطني الأصلي ومقري الذي أستعيد فيه ذاتي، رغم كثرة أسفاري وعملي في العاصمة، إلا أنني لم أكن أشعر بحريتي قدر ما كنت أشعر بها في بيت المرأة التي حرمتني حبي وأسرتي التي أردت.

الاثنين، 28 سبتمبر 2015

بورتريه

كعادتها كانت تتنقل بين اللوحات في مرسم خالد، تعجبها كثيرا بورتريهاته، فهي تحب الوجوه و أكثر ما تحب في الوجوه العيون. كان خالد يضع الرتوش الأخيرة لإحدى لوحاته حينما كانت تحدق في وجه تلك السمراء ذات العينين النجلاوين و الابتسامة الساحرة، حينما بادرته بسؤالها: "خالد، هل يمكنك أن ترسمني؟"، رفع عينيه عن لوحته، و طلب منها أن ترفع وجهها و تنظر إليه، و بعد لحظة تأمل قصيرة أجابها:" وجهك لايصلح للرسم .. فهو يفتقر إلى الخطوط الواضحة .. ملامحك أشبه بباليتة ألوان متداخلة، رغم تناغمها و جمالها إلا أنها بلا هوية واضحة". لم تفهم بالضبط ما يعنيه و لكن كلماته أصابت عمقا أبعد داخل نفسها.
أعادت النظر إلى بورتريه السمراء و سألته: "هل تعرفها؟" أشار برأسه أن لا، ثم قال: " هي موديل بالأجر" .. هزت رأسها و ابتسمت ابتسامة بلا معنى، ثم قالت له: "مَن مِن أصدقائنا يملك ملامحا يمكن رسمها؟" .. رفع وجهه عن اللوحة مرة أخرى و نظر إليها مستغربا: " ما قصتك مع رسم الوجوه اليوم؟ هل تفكرين في تعلم البرورتريه و منافستي؟" قالها ضاحكا ، فأجابت بجدية شديدة:" أنت تعرف جديا أنني لا أجيد الرسم" .. قال مستغربا: " هوني عليك، أنا أمازحك".
كانت الأفكار المتداعية المتتابعة في رأسها قد غيرت مزاجها، فسلمت على خالد و رحلت.
قررت أن تسير إلى بيتها، فهي بحاجة إلى أن تستنشق الهواء .. كان الوقت بدايات الشتاء و الهواء المائل للبرودة ينعش رئتيها كلما ملأتهما به. كانت تفكر في كلمات خالد، قناعتها أن الوجه انعكاس للروح و للشخصية جعلها تنسحب إلى داخلها لتنظر هل ما قاله خالد عن ملامحها هو انعكاس لشخصيتها؟
لم يكن هذا هو تساؤلها الأول عن ذاتها، فدائما ما يشغلها هذا السؤال، دائما ما حاولت أن ترى نفسها بعيون الآخرين، ربما كانت تحاول أن تُطَمئن نفسها بين الحين و الآخر أنها أجادت التخفي، و ألا أحد استطاع أن يصل إلى ذلك الصندوق الذي تخفي فيه "سمر" أخرى .. تخشى أن تعرضها لبطش هذا العالم فتفقدها، و تخشى أن يكتشفها أحدهم فينكشف أمامه ضعفها و عورة نفسها التي تواري بكل ما أوتيت من قوة.
ربما يكون هذا هو السر خلف تسطح ملامحها، أنها كانت تدفع ذاتها الحقيقية طوال الوقت بعيدا في عمق نفسها، و كلما نجحت في إبعادها كلما اغتربت و صارت مسخا أو صورة شائهة لشخص كان يوما ما هي.
حينما دخلت إلى حجرتها، توجهت إلى ذلك الصندوق الصغير الذي تحفظ فيه صورها التي لم تفكر يوما أن تضعها في ألبوم، لأنها تحب ملمس الصور حين تقلبها بين يديها ككروت اللعب، لم تحب يوما فكرة الكراسة المصورة التي يسمونها ألبوم. كانت تبحث عن صورة بعينها، صورة لها في بداية حياتها العملية، حينما كان الأمل يطل من عينيها، و لم يكن هناك خوف. يا الله لكم تغيرت ملامحها، ربما كان يمكن لخالد أن يرسم تلك الفتاه التي في الصورة، لأنها تملك ملامحا.
تعيد الصورة إلى الصندوق و تغلقه، و تقرر أنها بحاجة للحديث إلى صديقها القديم.
تفترش الأرض على سطح العمارة، و تنظر إليه، كانت ليلة مقمرة، استلقت على ظهرها فغمرها بنوره الفضي، أحست أنه يحتضنها، انسلت الدموع من عينيها هادئة دون نشيج أو معاناة، لكثرة ما بكت استحالت دموعها نهرا حملها على أمواجه ،و كان النهر يتدفق نحو القمر.
أفاقت على قطرات ماء خفيفة، كانت السماء تستعد ليوم مطير، اكتشفت أنها نامت ليلتها على السطح.

حينما استقرت في فراشها تحت الأغطية، شعرت أنها تبدلت، و أن القلق بداخلها تبدد، غفت من جديد و حينما استيقظت، كان هطول المطر مستمر، ارتدت ملابسها و سارت طويلا تضحك تحت المطر و تملأ يديها بقطراته و ترتشفها.

السبت، 26 سبتمبر 2015

صفحات الحياة

"تتقلص المساحات البيضاء من صفحات حياتنا بالظلال التي ترسمها التجربة عليها. الراحلون سريعا هم من يستهلكون صفحاتهم البيضاء سريعا أو ربما هم يملكون من قلوبا رقيقة لا تحتمل خدوش التجارب و جراحها التي تترك ندوبها على قلوبنا.

و لكننا نرحل و في كراساتنا مساحات بيضاء لم تُخدش، تجارب لم نخضها و معارف لم نتعرض لها. هل يشعر الموتى بالندم على التجارب التي لم يعيشوها و الطرق التي لم يسيروا فيها؟
ربما تكون المساحات البيضاء هي مساحات الأمان و الطمأنينة في حياتنا، و ربما تكون مساحات الكسل و الركود و الخوف من مجهول قد يكون بداية طريق جديد أو نهاية طريق توقفنا عنده و لم نكمل المسير."

في الصفحة المفتوحة من كراسة على المنضدة القريبة من مقعدي، قرأت تلك الكلمات، حين تركتني مها مع خيوطها و ذهبت لتصنع لنا القهوة و تأتيني بحلوى التيراميسو التي لا يعدها أحد مثلها.

لم أشرب في حياتي قهوة أجمل من تلك التي تعدها مها، لا أعرف هل هو نوع البن الذي تستخدمه أم طريقتها في إعدادها أم ذلك الشغف الذي يتملكها حينما يزورها أحدنا أو نتجمع عندها، يُخيَّل إليّ أحيانا أنها تذيب قطرات من حبها لنا في تلك الفناجيل.

تعود مها حاملة فناجيل القهوة و الحلوى، تلاحظ تعلق عيني بصفحة الكراسة، تضع الصينية  هي تبتسم "تعاودني عفريتة الكتابة بين الآن و الآن، مجرد محاولات لن يقرأها سواي و بعضكم إن أراد" تقولها و هي تعتدل في جلستها و تعيد احتضان خيوطها و إبرها و تكمل قفازات صديقنا يوسف التي وعدته بها.

"أرى في عينيك أسئلة كثيرة، هل قرأت شيئا مما كتبت؟" تسألني دون أن ترفع عينيها عن خيوطها و غرزها. "لم أقرأ سوى الصفحة المفتوحة" أجبت و صمتُّ .. شعرت أنني اجتزت عتبات لم تكن ترغب أن أعبرها، و أشعرني هذا بالخجل. فمها كانت واحدة من أولئك الذين يقدسون مساحاتهم الخاصة و يكرهون المتطفلين، حتى و إن كانوا من الأصدقاء. فكلنا نعرف أنها تمنحنا من نفسها المساحات التي تود مشاركتنا إياها، أما فناؤها الخلفي فهو ملك لها وحدها، و لا يحق لأي منا أن يخطو بداخله. مها شخص يقدس المساحات الخاصة و الخصوصية في حياتها و حياة الآخرين.

"هل تريدين تصفح الكراسة؟" سألتني و هي تناولني فنجال قهوتي و قطعة الحلوى. أجبتها "لا.. سأقرأها إن أردت أنت ذلك" .. ابتسمت و عادت لتجلس ممسكة بفنجالها. مررته تحت أنفها و هي مغمضة العينين فارتسمت على وجهها ابتسامة رضا و نطقت ملامحها باستمتاع عميق، تناولت رشفتها الأولى ثم قالت و على وجها ضحكة: "إذن لن تقرئيها أبدا" ابتسمت في المقابل و أجبت: " ستقتنعين يوما أن ما تكتبينه يستحق النشر" ثم أردفت: " ما قصة أوراق حياتنا البيضاء تلك؟ أراك تبحثين عن التجربة التي لم تُخَض بعد" .. أومأت برأسها بعينين مفتوحتين و شفتين مزمومتين أن نعم. نحّت الفنجال جانبا و عادت لخيوطها و حينما اعتدلت ثانية في جلستها سألتني: " ألا تشعرين أن الحياة صارت خالية من المفاجآت؟" أجبت بقتضاب: " نعم" فاسترسلت: "إذن فلنكن نحن المفاجأة .. فلنرحل لمساحات جديدة بتجارب جديدة. ماذا يمكننا أن نخسر؟ لا أظن أننا نملك شيئا يمكننا خسرانه.. لقد بنينا أملا و تركناه يتحطم أمام أعيننا المفتوحة واسعا، خسرنا أصدقاء بالموت و بالحبس و بالتخوين و بالظن و بكل الأشياء الملعونة، خسرنا أنفسنا و أحلامنا، و بعضنا خسر حياة كانت في مجملها مرضية و لكنه لم يستطع أن يستمر فيها بعد إنكسار نفوسنا مع سقوط الحلم" .. صمتت قليلا و كانت ملامحها قد اكتست بألم حزين، كنت أنظر إليها بعينين دامعتين. استطردت و هي تحاول استعادة هدوء ملامحها و ابتسامتها رغم البركان المتماوج بداخلها: " هكذا .. نحن لسنا فقط لم نعد نملك ما نخسره،  بل نحن مجبرون على الارتحال إلى التجارب و الأفكار و المدن و حتى الأشخاص الجدد، فبغير هذا نحن لن نكون سوى أرواحا ميتة في أجساد تبدو للناظر حية"
سألتها: " إذن هل قررت مساحتك الجديدة في الحياة؟" أجابت:" تلك هي المفاجأة .. ألم أقل لك فلنكن نحن المفاجأة؟"

عاودت نسج خيوطها بإبرها الطويلة و استغرقت أنا في قطعة أخرى من التيراميسو العظيم. 


الثلاثاء، 22 سبتمبر 2015

أكياس للمشردين

من شرفتي بالطابق الخامس، المطلة على الشارع الجانبي، أراه كل صباح، يترك سيارته على أول الشارع و ينزل محملا بالأكياس. على الرصيف المقابل لشرفتي ينام ثلاثة من المشردين .. يضع بجوارهم ثلاثة أكياس و ينصرف.. ثم يختفي في شوارع المنطقة و حين يعود لسيارته تكون الأكياس قد اختفت من يديه.
ياله من رجل كريم و رحيم، أراقب المشهد اليومي، و أدعو له. تستوقفني هيأته التي لا تدل على الغنى و سيارته متوسطة الحال قديمة الطراز.. أحدث نفسي أنه ربما يكون مرسلا من طرف أحد الأغنياء، فلا يمكن لرجل بهيأته تلك أن يكون قادرا على توفير هذا العدد من الوجبات بشكل يومي لهذا العدد من المشردين ، حتى و إن كان يحضر أرخص أنواع الطعام.
صارت مراقبتي له طقس يومي، و كذلك دعائي له.
بعد عدة أيام اختفى المشردون الثلاثة الذين يسكنون الرصيف المقابل لبيتي، و طال اختفاؤهم حتى نسيتهم، و بعد عدة أيام أخرى لم أعد أرى الرجل.
أقمت لفترة عند أختي التي تسكن في حي في غرب المدينة بينما أقطن أنا شرقها، فقد رزقت بمولود جديد و كانت بحاجة لمن يرعاها و طفليها.
استيقظت ذات صباح مبكرة، على صوت بكاء المولود الجديد، حاولت أن أعاود النوم مجددا فلم أستطع، صنعت فنجال قهوتي و لذت بالشرفة، كان ضوء النهار الواهن يحاول تبديد الظلام على مهل، و رأيته. ذات الرجل أو ربما ظننته هو، له هيئة مشابهة و يحمل الأكياس يوزعها على المشردين.. فعاودت الدعاء له و لمن يرسله.
حينما عدت لبيتي، وجدت مشردا على الرصيف المقابل .. ربما هو أحد الثلاثة و ربما هو شخص آخر.
في العادة لا نهتم بالنظر لوجوه المشردين، نكتفي بملابسهم البالية و الأوساخ المتراكمة على بشرتهم نتيجة العيش في الشارع، فيصيرون في أعيننا بلا ملامح و كأنهم ليسوا بشرا.
و في الصباح رأيت الرجل مرة أخرى في حيّنا يوزع الأكياس بنفس الهمة، و بعد عدة أيام اختفى المشرد من الرصيف المقابل كما اختفى الذين سبقوه، و بعدها بأيام اختفى الرجل من الحي.
تكرر ظهور الرجل و اختفاؤه من الحي كلما ظهر المشردون و اختفوا، و كان السؤالان الملحان في رأسي أين يختفون؟ و كيف يعرف بوجود مشردين جدد؟ خاصة أنني سألت الكثيرين من سكان الحي عن هذا الشخص فلم أجد من يعرفه.
على شاشة التليفزيون رجال و نساء يناقشون قضية المشردين و يتحدثون عن حلول غير منطقية و غير مجدية.  ينقلنا المذيع لفاصل يستعرض فيه رأي الجمهور في الشارع، الجميع يحذرون من خطورة أطفال الشوارع على طريقة الخبراء الاستراتيجيين، و كل منهم يحكي قصة عن تعرضه أو تعرض أحد معارفه للسرقة أو التحرش، و بعض يتحدث عن المنظر غير الحضاري و أن هؤلاء يضرون بصورة المدينة و يؤثرون على معدلات السياحة، أحول المؤشر على قناة أخرى ، برنامج حواري آخر و حديث عن المشردين و عن تجارب بعض الدول و كيف نجحت في تقليص عددهم أو القضاء على نسبة التشرد بين مواطنيها.. كلام أغلبه طبقي و ينطوي على كثير من القسوة، ما بين سجنهم من باب أن السجن سيوفر لهم مكان إقامة و طعام، و ما بين إرسالهم إلى الصحراء لتعميرها تحت إشراف الشرطة المحلية، و كان أكثر الآراء تطرفا هو التخلص منهم بالقتل .. فهؤلاء لن يفتقدهم أحد و اختفاؤهم لن يكون له سوى كل أثر إيجابي.. إذ أنهم عبء على المجتمع بالإضافة إلى تشويههم إياه.
في تلك اللحظة تذكرت قصة قصيرة مترجمة كنت قرأتها في طفولتي في إحدى مجلات أبي، كانت تحكي عن مجموعة علماء اجتمعوا ليطوروا نوعا من السم يدسونه في الخبز الذي يرسلونه لدول العالم الفقير لأنهم ما عادوا يحتملون هذا العبء من بشر كسولين لا ينتجون شيئا و يستهلكون فوائضهم التي يكدون في إنتاجها، و لا أدري من أين قفزت لذهني صورة الرجل ذي الأكياس و اختفاء المشردين و عودته كلما ظهروا.
في صباح اليوم التالي، حينما انتهى من توزيع الأكياس و ابتعد عن الحي، تمكنت من سرقة كيس أحد المشردين و هو نائم، هاتفت صديقة لي، طبيبة، كنت قد قصصت عليها شكوكي فطلبت مني إحضار عينة من الطعام لتحليلها.
على شاشة التلفزيون أصوات محمومة تنادي بالقضاء على المشردين بأقسى الطرق، قصص اغتصاب و تحرش و سرقة بالإكراه تنسب كلها إليهم .. هاتفي يرن، صوت صديقتي الطبيبة يؤكد حدسي في كلمات مقتضبة، سم بطيء المفعول.



الأحد، 20 سبتمبر 2015

الموت .. و فاطمة .. و أنا

الموت
"يقضم الموت أرواحنا على مهل .. فنحن لا نموت عند انتهاء الأجل .. نحن نموت رويدا رويدا، و حينما ينتهي الرمق الأخير يهمد حراك الجسد."

هكذا أخبرني جدي يوما حين سألته كيف نموت .. كنت قد سمعتهم يتحدثون عن موت أحدهم. 
من يومها صرت أطيل النظر إلى المرآة لا أنظر لشيء إلا عيني، فقد قيل لي أن العينين هما مرآة الروح، كنت أحاول أن أتعرف إلى مقدار التآكل الذي أتعرض له يوما بعد يوم. لم أكن أخاف بلوغ الرمق الأخير بقدر ما كان الفضول يدفعني لمحاولة اكتشاف سر الموت و إن كان يمكنني أن أمنعه من قضم أرواحنا.

كنت وقتها لم أبلغ بعد السابعة من عمري .. و كان جدي ربما لا يعرف سوى الموت المهيب الهادئ الذي يأتي على مهل .. لم يكن الموت وقتها وجبة يومية مباغتة .. كان الموت وقتها فرديا .. لا كموت اليوم جماعيا دمويا و قاسيا. ربما ﻷن الحياة وقتها كانت هادئة  فكان موتهم هادئا .. أما موتنا فهو صاخب صارخ قاس و عشوائي كحياتنا.
حينما كنت أطيل النظر إلى عيني في المرآة كنت أحاول أن أرى روحي و أن أرى الموت الكامن بداخلي يقرضها رويدا رويدا و كانت أمي كلما رأتني نهرتني .. ﻷن إطالة النظر في المرآة تصيب بالجنون .. مثلما حدث لخالتها فاطمة تلك الجميلة التي كانت تقضي يومها أمام المرآة لا يشغلها سوى جمالها، إلى أن ألقت جسدها عاريا في مياه النيل، و انتهت، و  حتى اليوم لا أحد يعرف ما الذي دفعها لموت فجائي، مخالف لموت ذلك الزمان، فوصموها بالجنون.  أو ربما هم يعرفون و لكنهم يتخذون من اتهامها بالجنون ستارا دون الحكي.

كنت أتحين لحظات انشغال أمي لأسرق لحظات أمام المرآة، و أعاود تأمل روحي و مراقبة مدى النقصان فيها. في تلك المرحلة من حياتي كنت قد قررت أن أصبح طبيبة حين أكبر .. لم أكن أعرف وقتها أن الطب بحور و تخصصات و لم أكن أعرف عن سعار المجاميع و معركة الثانوية العامة التي هي الخطوة الأولى في تحويل كل من مر بها إلى ترس يدور في ماكينة التعليم دون أن يتعلم .. استمرت تلك العادة معي حتى بلغت العاشرة من عمري .. حينها أدركت أنني لن أرى مقدار ما قُضم من روحي أبدا .. و لكنني أبدا لم أنس قول جدي و لم أنس خالة أمي التي تآكلت روحها بشكل متسارع فلم يأتها الموت على مهل.

بالطبع لم أصبح طبيبة و لكنني صرت صديقة .. ربما لأنني أدركت أن ما يقضم الأرواح هو الحزن، فقررت أن أحمل مع أصدقائي أحزانهم لأخفف وطأتها على أرواحهم .. و آثرت أن أحمل أحزاني وحدي .. ربما لأنني كنت أراها لا تستحق أن أحملها أحدا أو ربما كنت أخشى أن يسفهوا منها فتنجرح مشاعري، لست متيقنة الآن مما كان يدفعني وقتها للاحتفاظ بأحزاني لنفسي .. أما الآن فأنا أخبئ أحزاني عميقا بداخلي و أراقبها و هي تعمل حثيثا على إنجاز ما أردت.

رغم أن الموت حولي في كل مكان، إلا أن صوتا بداخلي أخبرني أنني سأموت كما مات الأقدمون، حينما تنتهي الأحزان من قضم روحي على مهل. حاولت مرارا و تكرارا أن أفهم كيف يعمل الموت و لِمَ يختار الأخيار منا و يترك الأشرار .. ربما لأن أرواحهم النقية لا تحتمل وقع العالم المادي التعيس الذي نعيشه.
حتى عشر سنوات مضت كان الموت يحافظ على طقوسه الهادئة المهيبة، ثم صار يتخلى عنها رويدا رويدا حتى صار موتا آخر، موتا ظالما مؤلما، يقتل بلا هوادة و لا رحمة، فصرنا نقيس مقدار المصيبة بعدد من ماتوا، و بعد وقت ليس بالطويل صرنا نحلل توجهات المقتول قبل أن نقرر أن نستشعر مصيبة الموت، فإن كان يشبهنا استغرقنا في حزن عميق، و إن كان مختلفا عنا بررنا موته بشره الذي كان يصيب الأخضر و اليابس. يجتاحني الخوف كثيرا مما نتغير إليه..
مات جدي، و لكنه بقي حيا بداخلي، كأنما كان يأبى أن يموت، فقرر أن يصير جزءً من حياتي، و في إحدى زياراته لي، و لأنه يرى أنني أشبهها كثيرا قرر جدي أن يحكي لي حكاية خالة أمي الجميلة "فاطمة".

فاطمة
أنت تشبهين فاطمة كثيرا، ربما لست بجمالها، و لكنك تملكين روحها، كأنما احتفظ النهر بروحها ليركبها بداخلك. إن فاطمة لم تنتحر كما يقولون، بل نحن من قتلناها. هكذا بدأ جدي حديثه، لم أعرف ماذا أقول و لكن الحزن في عينيه و ملامح وجهه كان باديا، شعرت لوهلة أنه يحكي لي الحكاية بدافع التطهر، لا ليشبع فضولي.

سمرت نظري على وجهه و حاولت ألا أبدي دهشة مما يقول، و استمر هو في الحكي بعد لحظة صمت.

أتعرفين، كانت فاطمة تحب الرسم، و القمر و السماء و السحاب و قوس قزح، أظنها كانت لتحب الشعر لو أنها كانت تعلمت القراءة. كانت طفلة شديدة الجمال، خفيفة الروح، و لكن ثقل الحزن قتلها. لم تكن روح فاطمة تستطيع العيش في سجن بلدتنا الصغيرة، لم تحتمل فاطمة أن تسجن داخل جدران البيت، أن تُحرَم الورق و الألوان لتتعلم أعمال المنزل. ألا ترى الشمس إلا بإذن .. ربما كان جمالها هو لعنتها في مجتمع يكره الجمال و يغار منه. أصر والدها أن يزوجها و هي لا تزال في الحادية عشرة من عمرها، و كان الزوج رجلا موسرا متعدد الزوجات يبلغ من العمر الكثير، ربما ستون عاما. لم تفهم فاطمة ما يعني أن تصير زوجة، كانت لا تزال صغيرة جدا بملامح بريئة و دقيقة. أفهموها أنها ستنتقل لبيت آخر لتصبح هي سيدته، فتخيلت أنها ستستعيد ألوانها و أوراقها و جولاتها في الحقول و مرحها مع الحيوانات الصغيرة. و لكن الزوج مات في ليلة الزفاف، حينما اصطحبها إلى داخل الحجرة وسط الزغاريد و الغناء، بعد قليل تعالت صرخاتها، ظن المنتظرون بالخارج أنها صرخات فض البكارة و لكنها كانت صرخات رؤيتها الأولى للموت.

عادت لبيت أبيها و ارتدت السواد في ذلك العمر المبكر، و منعت من الضحك. و صار الأسود هو لون أيامها، لأن الجميع صار يتعامل معها على أنها نذير شؤم، و صار أبوها قاسيا، و توقف عن تدليلها فصار لا ينعتها إلا بالبومة كلما رآها. انزوت فاطمة في حجرتها و صارت تنظر إلى نفسها في المرآة كثيرا، كانت تتمنى أن يصيبها نحسها فتموت و لكنها لم تمت، صارت تكبر إلى أن بلغت السابعة عشرة من عمرها. سبعة أعوام من التنكيل و سوء المعاملة من الجميع. و في ذلك اليوم، ارتدت ثويا مزركشا كانت قد سرقته من صوان أختها، و ألقت شعرها على ظهرها طويلا حرا غير مجدول، و تسللت حتى بلغت النهر، و هناك خلعت ملابسها حتى صارت كما ولدتها أمها و ألقت بجسدها إلى النهر و لم تعد إلا جثة هامدة بعد ثلاثة أيام من البحث.

كانت الدموع تنسل من عيني جدي على وجنتيه لتبلل لحيته ثم تتخذ طريقها إلى قميصه تاركة أثرها المتراكم على شكل بقعة كبيرة .. ثم أكمل، عرف الموت طريقه إلى فاطمة قبل أن تدرك فاطمة ما هي الحياة، أكلنا روحها بقسوتنا عليها .. جاءها الموت من بابنا.

لم أعرف أيضا ماذا أقول لجدي فربتُّ على كتفه و قبلت رأسه و مسحت دموعه بكفي. كان يبدو حزينا جدا.
و في اليوم التالي .. مات جدي. كنت وقتها في عمر فاطمة حين ماتت، و لكنني كنت أوفر حظا لأنني أعيش في المدينة الكبيرة.

أنـــــــا
ربما كان موت فاطمة هو الموت الصادم المروع الأول لجدي، و الذي أبقاه حزينا مطولا، ربما لم يتخلص من حزنه إلا حينما أخبرني القصة و بكى، لا أعرف لم قص عليّ أنا تلك القصة دونا عن باقي أحفاده، ربما لأنني أملك روحا تشبه روحها كما قال لي.

بعد حكايته تلك، تملكني إحساس غريب أنني على وشك الموت، رغم أنني لم أحزن و لم يأكل الألم روحي، كنت ما زلت صغيرة لا أحمل من هم الدنيا سوى امتحاناتي و مشاحناتي الدائمة مع أمي. و لكنني عشت و هأنذا أطفأت بالأمس شمعتي الخمسين و ما زلت على قيد الحياة رغم الحزن و الألم و الموت الذي صار خبرا يوميا، و صارت فجيعته تقاس بعدد الموتى أو القتلى إن شئت أن تسميهم.

 و لم يعد الموت يقضم الأرواح على مهل، بل صار نهما، يجتثها دون سابق إنذار أو توقع، صار الموت قتلا .. لم يعد هادئا مهيبا، بل صار مزعجا دمويا.

لا أدري ما الذي يذكرني اليوم بفاطمة و بجدي، ربما هو حنين لأيام تبدو لي الآن أنها كانت سعيدة، هي لم تكن كذلك بالنسبة لي حينها. ربما أفتقد جدي، فهو الوحيد الذي كان يملك حضنا يحتويني، و منذ مات لم يحتويني حضن سوى البحر.. ربما لأن متابعة الأخبار اليومية صارت عبئا يثقل روحي بمزيد من الحزن، ربما لأنني اعتدت وحدتي لدرجة صارت تؤرقني .. ربما لأن البشر صاروا أكثر قسوة .. يشمتون في الموت كأنه يصيب الآخرين و لا يصيبهم .. لم يعودوا يكترثون للظلم، و لم يعودوا يتساءلون هل من مات كان يستحق الموت؟ ، ألم يكن هناك من سبيل آخر سوى الموت؟، هل كان يمكن تجنب هذا الموت؟ لا شيء يثير تساؤلهم، لا شيء يؤلم ضمائرهم، هم راضون ما دام القاتل هو ممثل السلطة، هم راضون ما دام المقتول ليس من أقاربهم و لا أصدقائهم، هم سعداء ما دام المقتول ينتمي لمعسكر لا يتبنى أفكارهم أو لا يشاركهم ميولهم.

أنظر إلى المرآة أحيانا، كما كنت أفعل و أنا طفلة، و لكنني الآن أستجديها أن تخبرني أن ما بقي من روحي قليل، و أن الموت قضمها بسرعة.. لا حيلة لي يا جدي .. فالموت لم يخترني بعد، ربما ما زال لي دور عليّ أن أكملة، ربما بقيت لي ضحكات و دمعات لم أضحكها بعد و لم أسكبها بعد. ربما يجب عليّ أن أشتاق عناقك أكثر كي ألحق بك.
نعم بالأمس أطفأت شمعتي الخمسين يا جدي، صرت في عمرك حين زوجت أمي .. كنت تخشى أن تموت قبل أن تطمئن عليها. هأنذا في مثل عمرك وقتها، أعيش أيامي يوما بيوم، لا أفكر في غد لأنه صار احتمالا ضعيفا وسط حصار الموت. لا أعرف لم أخبرك بهذا الآن، ربما لأنك الوحيد الذي لن يضجر من سماعي.

أتعرف يا جدي؟ سأذهب غدا إلى صديقى البحر و سألقي لديه بكل تلك الأفكار و الهلاوس و سأترك له جسدي يحتضنه حتى يتساقط عني كل ألمي و قلقي و توتري، سأترك له جسدي يتلاعب به حتى يتسع صدري لنفس عميق يملأه و يريحني حين أطلقه بهدوء.. إلى حين ألقاك يا جدي تمنّ لي أن يتسع صدري لهذه الأنفاس.