الاثنين، 12 أكتوبر 2015

الغربة والشتاء


جدتي
كان لجدتي من الأولاد سبعة ذكور وثلاث إناث، اغترب عنها كل الذكور وبقيت الإناث لأنهن في زمانهن لم يكن يسمح لهن بالسفر وحيدات، تزوجن جميعًا من رجال من نفس البلدة وعشن حياة تشبه حياة كل نسائها، أما الذكور المغتربين فقد كان لهم شأن آخر.
قبل أن يسافر أي منهم، كانت جدتي تختلي به لتوصيه، ومن بين وصاياها كانت وصية عن الحب– ذلك الشعور المحرم على إناث البلدة-  وصية جدتي ألا يصدق حبه لامرأة في الغربة ولا في الشتاء، فكلاهما يستدعي إلى القلب شجن ورغبة في دفء مُتَوَهَم.
كل أخوالي تزوجوا في الغربة، وزرعوا بذورهم في أرضها وأنبتوا وأثمروا، وحينما عادوا، لم يأكل الوطن حبهم الذي نبت في أرض غريبة.
كنت أحب جدتي كثيرًا، فهي من كانت تقص عليّ حكايات الليل التي ترسم أحلامي، وهي من كانت تعقد لي ضفائر شعري وتصنع لي حلوى السكر والدقيق، وحلوى الخبز والعسل الأسود في ليالي الشتاء الباردة كي أتدفأ.
عاشت معنا جدتي طويلًا، حينما رحلت عنا كنت أقترب من الخامسة والعشرين، كانت امرأة مسموعة الكلمة والرأي وكان الجميع يأخذ بمشورتها، وكنت أقرب أحفادها إلى قلبها، كانت تسمح لي بحضور جلساتها مع نساء البلدة ورجالها لحل نزاع أوتسوية دين أوما شابه، وكنت أسألها وهي تضفر لي شعري الطويل المنسدل عما لم أفهمه في الجلسة، وكنت أفهم شرحها أحيانًا ولا أفهمه أحايينًا أخرى، ولكنني كنت أحب حديثها وأحب مرور أصابعها بين خصلات شعري، لم يصنع لي أحد يومًا ضفيرة محكمة كضفيرة جدتي.
عشت وأمي مع جدتي لأن أبي طلق أمي وأنا لم أزل جنينًا لم يكتمل في أحشائها، كان يمكن لأمي أن تتخلص مني، ولكنها تمسكت بي، ليس حبًا في الرجل الذي تزوجته، بقدر ما كانت رغبة منها في أن تنشغل بقطعة منها تشغلها عن جدتي وتشغل جدتي عنها، فهي أول مطلقة في عائلتنا وهذا أمر لو تعلمون عظيم.
في البدء كانت أمي تخشى عليّ من جدتي، ولكنهم يحكون لي أنها تعلقت بي بمجرد أن وقعت عيناها عليّ ولكنها لم تُبدِ ذلك في بادئ الأمر، ولكنها فشلت في إخفائه حينما بدأت أتحرك حبوًا في البيت وأضحك في وجهها كلما بلغت ساقيها ثم أعتدل لأجلس هناك ألعب وأضحك، لم تكن تمنعني ولم تكن تنهرني أوتخرجني من حجرتها ولا جلساتها، كانت تراقبني وأنا ألعب وتربت عليّ بين الحين والآخر، مع الوقت صرت بالنسبة لها الحب الذي رفضته ثم صار عمادًا لحياتها.
حينما كبرت وقررت أن أغترب لأكمل تعليمي عند أحد أخوالي، كادت تقبل يديّ لأبقى، ولكن إصراري وقتها كان كبيرًا، حينما ودعتها لم أكن أعرف أنني لن أراها مرة أخرى. ألقت جدتي عليَّ تعويذتها السحرية الخالدة:"لا يتعلقن قلبك بأحدهم في الغربة ولا في الشتاء، فالغربة خادعة والشتاء فصل الحنين والغبش". ضحكت في وجهها واحتضنتها وهمست في أذنها:"لم لا تأتين معي يا جدتي؟" ضحكت حتى انفرطت دمعات من عينيها، أسرعت أمسحها بكفي وقبلت وجنتيها عند أثر الدموع ووعدتها، "لن أقع في حب غريب ولن أصدق كلمات حب في الشتاء." ثم قبلت رأسها، وفي اليوم التالي سافرت.
رحلت جدتي بعدها بعامين، حينما عدت لوداعها، قبلت جبينها ووجنتيها وبكيت كثيرًا وأنا ألثم يديها، كم كان جسدها باردًا وضعيفًا، تلك المرأة التي لم تكن يومًا ضعيفة.
غربة وشتاء
كان موت جدتي انكسارًا لي، كنت أشعر أن فراغًا كبيرًا ينمو بداخلي، فرغم اغترابي وبعدي عنها، إلا أن يقيني بأنني سأعود إلى بيتها وأحضانها وحكاياتها ونصائحها التي لم أعمل بمعظمها، كان يعطيني إحساسًا بالأمان والراحة.
كان موتها بمثابة انكسار ثان لي، فانكساري الأول كان أبي الذي لم أعرفه رغم أنني أحمل اسمه.
كان صباحًا شتويًا مائلًا للدفء، أشرقت فيه -على غير العادة- شمس ناعمة الأشعة يختلط دفؤها ببرودة الجو على استحياء، كنت أجلس على أحد المقاعد في حديقة الجامعة، أستمتع برائحة الهواء وبرودته المنعشة-حين أقبل زميلي عَلِيّ-بابتسامته المعهودة وحياني بفرنسيته المميزة كفرنسي من أصل تونسي، كنت أحب لهجته التي يتكرر حرف القاف الفصيح فيها، فهم لا يبدلونها ألفًا مثلنا، في هذا اليوم أخبرني عليّ أنه يحبني، وأنه تردد كثيرًا قبل أن يخبرني لأنه لم ير مني أي بادرة تشجعه، ولكنه في النهاية قرر أن يريح قلبه وأن يحسم الأمر ليسمع إجابتي بدلًا من الانتظار.. كان احمرار وجنتي في تصاعد مستمر، لا أعرف كيف أجيبه، فأنا معجبة به، ولكن لا يمكنني أن أجزم أنني أحبه، كما أنها كانت المرة الأولى التي يواجهني أحدهم بمشاعره تجاهي، تلعثمت قليلًا، ثم قررت أن أخبره الحقيقة أنا أيضًا، وقد كان، وبدأنا نخطو على الدرب، في خلفية كل المشاهد واللقاءات والمغامرات وكلمات الغزل والمشاعر كانت هناك تلك الحكمة التي تقضي بفشل قصة حب بدأت في الغربة وفي الشتاء، كان صوت جدتي يتردد طوال الوقت كموسيقى الخلفية في الأفلام، حاولت مرارًا إسكاته، حاولت مناقشته بالعقل وبالواقع الذي صار مع أخوالي جميعًا، ولكنه أبى إلا أن يكدر لحظات صفوي.
هل كانت جدتي تغار عليّ من علِيّ؟ هل كانت روحها غضبى لأنه صار قريبًا مني؟ وصار هو الدواء لانكسارات نفسي ولإحساسي الدائم بالغربة رغم أنني أعيش هنا أيضًا بين أهلي؟
قررت أنني سأتزوج عليّا رغم أنف جدتي، وقد كان، كان عليٌّ رقيق القلب والمعاملة وكان يحبني كثيرًا، وكنت أحبه فقد صار هو السكن والدار والأهل، وبقي صوت جدتي يتردد في رأسي كطنين لا يهدأ إلا حين أضع رأسي على صدر عليّ لأسمع دقات قلبه.
طلب مني عليّ أن ألجأ لطبيب نفسي ليخلصني من صوت جدتي، ولكنني وقتها رفضت، ربما لأن هذا الصوت كان هو كل ما بقي لي من جدتي، رغم العذاب إلا أنه صار صلتي التي لا تنقطع بها.
احتملني عليّ لثلاث سنوات، كان ألم رأسي فيها جحيمًا لا يتوقف عن تنغيص لحظاتنا الحلوة، فصارت النهاية الحتمية لراحتنا أن ننفصل.
وكان انفصالنا في الشتاء أيضًا،عانيت نوبة حمى طويلة انقطع عني فيها صوت جدتي، ولكنها بعد أيام زارتني في حلم طويل، هدهدتني فيه كما كانت تفعل حينما كنت أمرض وأنا طفلة، واستيقظت في اليوم التالي كأنني لم أمرض أبدًا، ولكن فراغًا كبيرًا كان يحتل صدري ويحيل تنفسي لمحاولة بائسة لملء كرة مثقوبة بالهواء.

بيت الجدة
بعد سبع سنوات من الغياب، عدت إلى بيت الجدة الذي لم يبق فيه سوى أمي، تلك المرأة الصامتة الطيعة أبدًا، كنت أحبها كثيرًا ولكنها كانت دومًا أشبه بطيف يشاركنا السكن، لم تكن تتكلم كثيرًا ولم تكن لها مطالب أبدًا، كنت أحبها وأكره استسلامها البائس لجدتي وللعادات والتقاليد والخرافات، استغرقني الأمر وقتًا طويلًا حتى أدرك أنها صارت طيفًا لتوفر لي الحياة في كنف جدتي، لأجد بيتًا كريمًا أنشأ فيه، جدتي وأنا كنا حجري الرحى في حياة أمي.
أما أبي الذي كان انكسارها وانكساري فلم أره أوأعرفه إلا حينما قرر أهل البلدة الاحتفاء بابنتهم العائدة من بلاد الغربة بشهادة كبيرة، لا يعرفون فيم هي ولا فيم ستفيدهم، ولكنها شهادة كبيرة من عند الأجانب.
طرق باب بيتنا بعد انتهاء الحفل، وطلب من الخادمة أن يقابلني دون أن يفصح عن اسمه، عرفته حينما نظرت إلى عينيه وأنا مقبلة عليه في المضيفة،ابتسامة كبيرة كانت تعلو وجهه، وذراعين مفتوحتين استعدادًا لاحتضاني، نظرة جوفاء كانت تملأ عيني وسلام بارد هو كل ما استطعت أن أقدمه لأب غريب اعتبرني ابنة جاحدة لأنني لم أرتم بين ذراعيه، طلبت من الخادمة أن تقدم له واجب الضيف وشكرته على زيارته، لم أكن أكرهه ولا أحقد عليه، لم أكن أمتلك أي شعور نحوه، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي أراه فيها.
بقي بيت جدتي هو موطني الأصلي ومقري الذي أستعيد فيه ذاتي، رغم كثرة أسفاري وعملي في العاصمة، إلا أنني لم أكن أشعر بحريتي قدر ما كنت أشعر بها في بيت المرأة التي حرمتني حبي وأسرتي التي أردت.