الاثنين، 28 سبتمبر 2015

بورتريه

كعادتها كانت تتنقل بين اللوحات في مرسم خالد، تعجبها كثيرا بورتريهاته، فهي تحب الوجوه و أكثر ما تحب في الوجوه العيون. كان خالد يضع الرتوش الأخيرة لإحدى لوحاته حينما كانت تحدق في وجه تلك السمراء ذات العينين النجلاوين و الابتسامة الساحرة، حينما بادرته بسؤالها: "خالد، هل يمكنك أن ترسمني؟"، رفع عينيه عن لوحته، و طلب منها أن ترفع وجهها و تنظر إليه، و بعد لحظة تأمل قصيرة أجابها:" وجهك لايصلح للرسم .. فهو يفتقر إلى الخطوط الواضحة .. ملامحك أشبه بباليتة ألوان متداخلة، رغم تناغمها و جمالها إلا أنها بلا هوية واضحة". لم تفهم بالضبط ما يعنيه و لكن كلماته أصابت عمقا أبعد داخل نفسها.
أعادت النظر إلى بورتريه السمراء و سألته: "هل تعرفها؟" أشار برأسه أن لا، ثم قال: " هي موديل بالأجر" .. هزت رأسها و ابتسمت ابتسامة بلا معنى، ثم قالت له: "مَن مِن أصدقائنا يملك ملامحا يمكن رسمها؟" .. رفع وجهه عن اللوحة مرة أخرى و نظر إليها مستغربا: " ما قصتك مع رسم الوجوه اليوم؟ هل تفكرين في تعلم البرورتريه و منافستي؟" قالها ضاحكا ، فأجابت بجدية شديدة:" أنت تعرف جديا أنني لا أجيد الرسم" .. قال مستغربا: " هوني عليك، أنا أمازحك".
كانت الأفكار المتداعية المتتابعة في رأسها قد غيرت مزاجها، فسلمت على خالد و رحلت.
قررت أن تسير إلى بيتها، فهي بحاجة إلى أن تستنشق الهواء .. كان الوقت بدايات الشتاء و الهواء المائل للبرودة ينعش رئتيها كلما ملأتهما به. كانت تفكر في كلمات خالد، قناعتها أن الوجه انعكاس للروح و للشخصية جعلها تنسحب إلى داخلها لتنظر هل ما قاله خالد عن ملامحها هو انعكاس لشخصيتها؟
لم يكن هذا هو تساؤلها الأول عن ذاتها، فدائما ما يشغلها هذا السؤال، دائما ما حاولت أن ترى نفسها بعيون الآخرين، ربما كانت تحاول أن تُطَمئن نفسها بين الحين و الآخر أنها أجادت التخفي، و ألا أحد استطاع أن يصل إلى ذلك الصندوق الذي تخفي فيه "سمر" أخرى .. تخشى أن تعرضها لبطش هذا العالم فتفقدها، و تخشى أن يكتشفها أحدهم فينكشف أمامه ضعفها و عورة نفسها التي تواري بكل ما أوتيت من قوة.
ربما يكون هذا هو السر خلف تسطح ملامحها، أنها كانت تدفع ذاتها الحقيقية طوال الوقت بعيدا في عمق نفسها، و كلما نجحت في إبعادها كلما اغتربت و صارت مسخا أو صورة شائهة لشخص كان يوما ما هي.
حينما دخلت إلى حجرتها، توجهت إلى ذلك الصندوق الصغير الذي تحفظ فيه صورها التي لم تفكر يوما أن تضعها في ألبوم، لأنها تحب ملمس الصور حين تقلبها بين يديها ككروت اللعب، لم تحب يوما فكرة الكراسة المصورة التي يسمونها ألبوم. كانت تبحث عن صورة بعينها، صورة لها في بداية حياتها العملية، حينما كان الأمل يطل من عينيها، و لم يكن هناك خوف. يا الله لكم تغيرت ملامحها، ربما كان يمكن لخالد أن يرسم تلك الفتاه التي في الصورة، لأنها تملك ملامحا.
تعيد الصورة إلى الصندوق و تغلقه، و تقرر أنها بحاجة للحديث إلى صديقها القديم.
تفترش الأرض على سطح العمارة، و تنظر إليه، كانت ليلة مقمرة، استلقت على ظهرها فغمرها بنوره الفضي، أحست أنه يحتضنها، انسلت الدموع من عينيها هادئة دون نشيج أو معاناة، لكثرة ما بكت استحالت دموعها نهرا حملها على أمواجه ،و كان النهر يتدفق نحو القمر.
أفاقت على قطرات ماء خفيفة، كانت السماء تستعد ليوم مطير، اكتشفت أنها نامت ليلتها على السطح.

حينما استقرت في فراشها تحت الأغطية، شعرت أنها تبدلت، و أن القلق بداخلها تبدد، غفت من جديد و حينما استيقظت، كان هطول المطر مستمر، ارتدت ملابسها و سارت طويلا تضحك تحت المطر و تملأ يديها بقطراته و ترتشفها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق