الخميس، 15 سبتمبر 2011

البحث عن القمر


في شرفتها العالية التي تكاد تلامس السماء في ذلك البلد البعيد الغريب الذي هجرت وطنها إليه .. وقفت تنظر إلى السماء المزدانة بالنجوم التي لا يلحظها أحد وسط تلك المصابيح الملونة التي تحول ليل المدينة لما يشبه الغروب أو الشروق فتتوارى النجوم حزينة لأن أحدا لا يلحظها .. فقد فقدت جميع وظائفها لبني البشر .. من الاستضاءة إلى الاستهداء .

حاولت البحث عن القمر .. هي لا تعلم في أي أيام الشهر العربي هي و لكنها تمنت أن تراه بدرا .. أوحشها وجه القمر المضيء الهادئ .. صديق طفولتها و شبابها .. بحثت عنه بلا طائل يبدو أنها اختارت اليوم غير المناسب .. أو لعله يكون متواريا خلف أي من تلك البنايات المستطيلة عازفا عن بني البشر الذين أصبحوا لا يلحظونه أيضا.
في بلادنا العربية لا نبحث عنه إلا لنعرف بدايات الأشهر العربية و نهاياتها .. لم نعد نبحث عنه لنستأنس به في الليالي المقمرة كما كان يفعل أجدادنا حينما كانوا يسكنون الصحراء و حينما كانت صفحة السماء منبسطة أمام أعينهم لا يحجبها عنهم مبنى و لا معنى
..

ربما يعود تعلقها بالسماء و كل ما تحمله من جمال إلى فترة طفولتها التي قضتها في أحدى ضواحي مدينتها الأثيرة الاسكندرية .. حيث كانت كل البيوت من طابق واحد و متباعدة .. و حيث كانت الطبيعة هي بطلة المشهد .. كانت السحب على الخلفية الزرقاء ترسم وجوها و طيورا و حيوانات أو هكذا كان يتراءى لها و هي تسير على الأرض الصفراء .. كانت تحلم كثيرا أنها تطير بين السماء و الأرض و لكنها حتى في أحلامها كانت دائما أقرب إلى الأرض منها إلى السماء .. كما لو أنها كانت تخشى أن تقترب من السماء فيكسر الواقع حلمها الخيالي بجمال السماء و صفائها كما كسرت الأيام و اقترابها من البشر ذلك الإحساس الطفولي الذي كانت تتعامل به مع كل الناس .. أما صديقها الأثير الذي كانت تتابع نموه و اكتماله ثم ضموره ثم عودته للنمو مرة أخرى فكان يضيئ صفحة السماء المظلمة ليلا و تتناثر حوله النجوم احتفاءً به .. ذلك هو حبيبها الأول .. القمر .
و ها هي اليوم تعاود البحث عنه في صفحة السماء في نوبة من نوبات الحنين الجارف إلى كل ما عرفته و ألفته في شبابها و طفولتها .. تمنت لو أطل عليها بضوئه الفضي الهادئ و أعاد الأمان و الطمأنينة إلى نفسها المضطربة.

دفعتها ظروف الحياة إلى ترك الوطن و الاغتراب .. الحياة في بلدها أصبحت صعبة رغم أنها و من كان زوجها كانا يعملان في وظائف محترمة و بدخل محترم و لكن،  تدخل الأهل .. ارتفاع الأسعار .. صعوبة الحياة .. ضيق الأرزاق و تغير الناس جعلتهما يهربان .. كانا يظنان أنهما سيكفي كل منهما الآخر في الغربة فقد تزوجا عن حب و تفاهم و و جمعت بينهما صداقة جميلة استمرت حتى بعد زواجهما .. كان كل منهما هو الضمانة للثاني .. راهنا على ذلك و سافرا و خسرا الرهان.

حين وُضِعت نقطة النهاية لم تعرف من منهما وضعها و لا لم وُضِعت .. و لكنها في لحظة النهاية لم تشعر بذلك الألم الذي كانت تتوقع .. الألم لم يكن كما تصورته أبدا .. تخيلت انهيارا و دموعا تنساب كالأنهار و اكتئاب و احتياج لطبيب نفسي و لكن لا شيء من هذا حدث .. تألمت نعم و لكن ليس كما يُتخيل لافتراق حبيبين مثلهما .. ألمها على فراق حسين كان أكبر.

 كان حسين ابن عمها  يصغرها بحوالي سبعة أعوام و لكنه كان من هؤلاء الأشخاص الذين لا تتخيل أنهم يعيشون معنا فوق نفس الأرض .. و بالفعل هو لم يعد يشاركنا نفس الأرض .. مات في حادث سير أليم .. صدمته سيارة و هو يعبر طريق قناة السويس ..  لم يتألم .. مات من توه.
تلقت الخبر في اتصال هاتفي .. لم تكن فجيعة الموت هي المصدر الوحيد للألم.
عدم قدرتها على العودة لتكون إلى جوار أهلها .. عدم رؤيتها لحسين و لو للمرة الأخيرة .. حزنها وحيدة بعبدة غريبة .. كل هذا جعل ألمها مضاعفا .. حاول زوجها احتواء ألمها و لكن طبيعته الصامتة الهادئة و انفعالاته المحسوبة دائما لم تساعده على أن يتخطى معها تلك الأزمة .. كان الألم يعتصرها حتى أنها فقدت وزنا كثيرا .. و من يعرفها جيدا سيعرف أنها فقدت جزءا من نفسها.

لم يكن موت حسين هو السبب الوحيد .. و لكن موته أكد إحساسها بالاغتراب .. هي بعيدة في كل الأحداث .. لا تشارك احدا فرحا و لا حزنا .. خيرا و لا شرا .. تسمع أخبار وطنها كالأغراب لا يمكنها المشاركة في بناء ما يُبنى و لا نقد ما يُهدم .. حياتها تنحصر في العمل و زوجها و أولادها .. لا أصدقاء .. كلهم زملاء أو معارف أو أصحاب و لكنهم ليسوا أصدقاءً .. لا يمكنها أن تخلع أقنعتها أمامهم .. لا يمكنها أن تكون نفسها أمامهم .. حتى زوجها لم يعد ذلك الصديق الذي كان يغنيها عن كل الناس .. أصبحت تفتقد وجوها قديمة في ذاكرتها .. أصدقاء من أيام الطفولة .. ربما لا تذكر أسماءهم الآن و لكن الوجوه و العيون لا تُنسى .. تمنت لو استطاعت الاجتماع بهم و لكن أنى لها هذا .. هي لا تعرف عن أخبارهم منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاما .. منذ تخرجت في مدرستها .. "ياااااااااااااااااه .. كل هذه الأعوام مرت ... لابد أني أقترب الآن من بداية النهاية" .. هكذا حدثتها نفسها .

مرت كل هذه الذكريات و الأفكار برأسها و هي لازالت معلقة في شرفتها تبحث عن القمر ..
في ليال كثيرة و من بينها تلك الليلة حدثتها نفسها أن تهاتف حازم و تناشده العودة و استكمال الحياة معها .. أحيانا تفتقد أنفاسه بجوارها فيعز النوم عليها .. أحيانا تتمنى لو أمكنها استشعار ساعديه حول خصرها و لو لمرة أخيرة .. أن تضع رأسها على صدره .. أن تملأ رئتيها بأنفاسه .. أن تترك شفتاها لشفتيه تلتهمانهما .. أن تكون معه .. تحدثه .. تسمع صوته .. تترك يديها بين يديه و تريح رأسها على كتفه .. تعد له كوب الشاي المصري الساخن و تجلس إلى جواره و هو يكتب و يعطيها ما كتب لتقرأ و تراجع و تعدل إن احتاج الأمر .. أن تغتاظ منه و هو مستول على التليفزيون لمتابعة مباراة كرة قدم بينما هي تريد أن تشاهد قناة ناشيونال جيوجرافيك لتتابع قصة الحيوانات الجليدية.
 ن أن يااااااااااااااه نعم كثيرا ما افتقدته في تلك السنوات الأربع الماضية و لكنها أبدا لم تجرؤ أن تهاتفه .. لا زالت تحفظ رقم هاتفه الجوال عن ظهر قلب .. و لكنها لا تدري إن كان هو أيضا يحمل نفس الشعور .. أم أن قلبه دق بحب امرأة أخري ..
تعرف أنه لم يتزوج .. و لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه لازال يفكر فيها.

بقيت في هذا البلد الغريب أربعة سنوات وحيدة .. كانت تخشى العودة إلى الوطن و مواجهة أعين الأهل الغاضبين أو المشفقين عليها من الوحدة .. حياتها جافة لا يرويها سوى هاتين العينين الجميلتين لتلك البنت التي كانت ثمرة زواجها .. أصبحت الآن على مشارف الخامسة عشرة من عمرها .. أدهشتها قدرة نور على تقبل انفصالهما منذ أربع سنوات .. و أذهلتها أيضا قدرتها على الحفاظ على علاقتها بكليهما .. هي تعيش معها و لكنها تري أباها كثيرا و تذهب أحيانا إلى منزله لتبقى معه ..
" أحيانا أفتقد دفء اكتمال أسرتنا الصغيرة .. و لكن ... دعي عنك هذه الأفكار " هكذا بدأت الفكرة و أنهتها لكي لا تتعذب بها أكثر ..

أصبح الجو شديد البرودة و الوقت متأخر و نور ستبيت لدى أبيها الليلة. و هي وحيدة في المنزل المقترب من السماء ذات النجوم الخجلى و القمر المختبئ .. و لكن عليها العودة إلى الداخل قبل أن تتجمد أوصالها .. ستقضي ليلة باردة أخري .. وحيدة بلا مؤنس.