السبت، 26 سبتمبر 2015

صفحات الحياة

"تتقلص المساحات البيضاء من صفحات حياتنا بالظلال التي ترسمها التجربة عليها. الراحلون سريعا هم من يستهلكون صفحاتهم البيضاء سريعا أو ربما هم يملكون من قلوبا رقيقة لا تحتمل خدوش التجارب و جراحها التي تترك ندوبها على قلوبنا.

و لكننا نرحل و في كراساتنا مساحات بيضاء لم تُخدش، تجارب لم نخضها و معارف لم نتعرض لها. هل يشعر الموتى بالندم على التجارب التي لم يعيشوها و الطرق التي لم يسيروا فيها؟
ربما تكون المساحات البيضاء هي مساحات الأمان و الطمأنينة في حياتنا، و ربما تكون مساحات الكسل و الركود و الخوف من مجهول قد يكون بداية طريق جديد أو نهاية طريق توقفنا عنده و لم نكمل المسير."

في الصفحة المفتوحة من كراسة على المنضدة القريبة من مقعدي، قرأت تلك الكلمات، حين تركتني مها مع خيوطها و ذهبت لتصنع لنا القهوة و تأتيني بحلوى التيراميسو التي لا يعدها أحد مثلها.

لم أشرب في حياتي قهوة أجمل من تلك التي تعدها مها، لا أعرف هل هو نوع البن الذي تستخدمه أم طريقتها في إعدادها أم ذلك الشغف الذي يتملكها حينما يزورها أحدنا أو نتجمع عندها، يُخيَّل إليّ أحيانا أنها تذيب قطرات من حبها لنا في تلك الفناجيل.

تعود مها حاملة فناجيل القهوة و الحلوى، تلاحظ تعلق عيني بصفحة الكراسة، تضع الصينية  هي تبتسم "تعاودني عفريتة الكتابة بين الآن و الآن، مجرد محاولات لن يقرأها سواي و بعضكم إن أراد" تقولها و هي تعتدل في جلستها و تعيد احتضان خيوطها و إبرها و تكمل قفازات صديقنا يوسف التي وعدته بها.

"أرى في عينيك أسئلة كثيرة، هل قرأت شيئا مما كتبت؟" تسألني دون أن ترفع عينيها عن خيوطها و غرزها. "لم أقرأ سوى الصفحة المفتوحة" أجبت و صمتُّ .. شعرت أنني اجتزت عتبات لم تكن ترغب أن أعبرها، و أشعرني هذا بالخجل. فمها كانت واحدة من أولئك الذين يقدسون مساحاتهم الخاصة و يكرهون المتطفلين، حتى و إن كانوا من الأصدقاء. فكلنا نعرف أنها تمنحنا من نفسها المساحات التي تود مشاركتنا إياها، أما فناؤها الخلفي فهو ملك لها وحدها، و لا يحق لأي منا أن يخطو بداخله. مها شخص يقدس المساحات الخاصة و الخصوصية في حياتها و حياة الآخرين.

"هل تريدين تصفح الكراسة؟" سألتني و هي تناولني فنجال قهوتي و قطعة الحلوى. أجبتها "لا.. سأقرأها إن أردت أنت ذلك" .. ابتسمت و عادت لتجلس ممسكة بفنجالها. مررته تحت أنفها و هي مغمضة العينين فارتسمت على وجهها ابتسامة رضا و نطقت ملامحها باستمتاع عميق، تناولت رشفتها الأولى ثم قالت و على وجها ضحكة: "إذن لن تقرئيها أبدا" ابتسمت في المقابل و أجبت: " ستقتنعين يوما أن ما تكتبينه يستحق النشر" ثم أردفت: " ما قصة أوراق حياتنا البيضاء تلك؟ أراك تبحثين عن التجربة التي لم تُخَض بعد" .. أومأت برأسها بعينين مفتوحتين و شفتين مزمومتين أن نعم. نحّت الفنجال جانبا و عادت لخيوطها و حينما اعتدلت ثانية في جلستها سألتني: " ألا تشعرين أن الحياة صارت خالية من المفاجآت؟" أجبت بقتضاب: " نعم" فاسترسلت: "إذن فلنكن نحن المفاجأة .. فلنرحل لمساحات جديدة بتجارب جديدة. ماذا يمكننا أن نخسر؟ لا أظن أننا نملك شيئا يمكننا خسرانه.. لقد بنينا أملا و تركناه يتحطم أمام أعيننا المفتوحة واسعا، خسرنا أصدقاء بالموت و بالحبس و بالتخوين و بالظن و بكل الأشياء الملعونة، خسرنا أنفسنا و أحلامنا، و بعضنا خسر حياة كانت في مجملها مرضية و لكنه لم يستطع أن يستمر فيها بعد إنكسار نفوسنا مع سقوط الحلم" .. صمتت قليلا و كانت ملامحها قد اكتست بألم حزين، كنت أنظر إليها بعينين دامعتين. استطردت و هي تحاول استعادة هدوء ملامحها و ابتسامتها رغم البركان المتماوج بداخلها: " هكذا .. نحن لسنا فقط لم نعد نملك ما نخسره،  بل نحن مجبرون على الارتحال إلى التجارب و الأفكار و المدن و حتى الأشخاص الجدد، فبغير هذا نحن لن نكون سوى أرواحا ميتة في أجساد تبدو للناظر حية"
سألتها: " إذن هل قررت مساحتك الجديدة في الحياة؟" أجابت:" تلك هي المفاجأة .. ألم أقل لك فلنكن نحن المفاجأة؟"

عاودت نسج خيوطها بإبرها الطويلة و استغرقت أنا في قطعة أخرى من التيراميسو العظيم. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق