الثلاثاء، 22 سبتمبر 2015

أكياس للمشردين

من شرفتي بالطابق الخامس، المطلة على الشارع الجانبي، أراه كل صباح، يترك سيارته على أول الشارع و ينزل محملا بالأكياس. على الرصيف المقابل لشرفتي ينام ثلاثة من المشردين .. يضع بجوارهم ثلاثة أكياس و ينصرف.. ثم يختفي في شوارع المنطقة و حين يعود لسيارته تكون الأكياس قد اختفت من يديه.
ياله من رجل كريم و رحيم، أراقب المشهد اليومي، و أدعو له. تستوقفني هيأته التي لا تدل على الغنى و سيارته متوسطة الحال قديمة الطراز.. أحدث نفسي أنه ربما يكون مرسلا من طرف أحد الأغنياء، فلا يمكن لرجل بهيأته تلك أن يكون قادرا على توفير هذا العدد من الوجبات بشكل يومي لهذا العدد من المشردين ، حتى و إن كان يحضر أرخص أنواع الطعام.
صارت مراقبتي له طقس يومي، و كذلك دعائي له.
بعد عدة أيام اختفى المشردون الثلاثة الذين يسكنون الرصيف المقابل لبيتي، و طال اختفاؤهم حتى نسيتهم، و بعد عدة أيام أخرى لم أعد أرى الرجل.
أقمت لفترة عند أختي التي تسكن في حي في غرب المدينة بينما أقطن أنا شرقها، فقد رزقت بمولود جديد و كانت بحاجة لمن يرعاها و طفليها.
استيقظت ذات صباح مبكرة، على صوت بكاء المولود الجديد، حاولت أن أعاود النوم مجددا فلم أستطع، صنعت فنجال قهوتي و لذت بالشرفة، كان ضوء النهار الواهن يحاول تبديد الظلام على مهل، و رأيته. ذات الرجل أو ربما ظننته هو، له هيئة مشابهة و يحمل الأكياس يوزعها على المشردين.. فعاودت الدعاء له و لمن يرسله.
حينما عدت لبيتي، وجدت مشردا على الرصيف المقابل .. ربما هو أحد الثلاثة و ربما هو شخص آخر.
في العادة لا نهتم بالنظر لوجوه المشردين، نكتفي بملابسهم البالية و الأوساخ المتراكمة على بشرتهم نتيجة العيش في الشارع، فيصيرون في أعيننا بلا ملامح و كأنهم ليسوا بشرا.
و في الصباح رأيت الرجل مرة أخرى في حيّنا يوزع الأكياس بنفس الهمة، و بعد عدة أيام اختفى المشرد من الرصيف المقابل كما اختفى الذين سبقوه، و بعدها بأيام اختفى الرجل من الحي.
تكرر ظهور الرجل و اختفاؤه من الحي كلما ظهر المشردون و اختفوا، و كان السؤالان الملحان في رأسي أين يختفون؟ و كيف يعرف بوجود مشردين جدد؟ خاصة أنني سألت الكثيرين من سكان الحي عن هذا الشخص فلم أجد من يعرفه.
على شاشة التليفزيون رجال و نساء يناقشون قضية المشردين و يتحدثون عن حلول غير منطقية و غير مجدية.  ينقلنا المذيع لفاصل يستعرض فيه رأي الجمهور في الشارع، الجميع يحذرون من خطورة أطفال الشوارع على طريقة الخبراء الاستراتيجيين، و كل منهم يحكي قصة عن تعرضه أو تعرض أحد معارفه للسرقة أو التحرش، و بعض يتحدث عن المنظر غير الحضاري و أن هؤلاء يضرون بصورة المدينة و يؤثرون على معدلات السياحة، أحول المؤشر على قناة أخرى ، برنامج حواري آخر و حديث عن المشردين و عن تجارب بعض الدول و كيف نجحت في تقليص عددهم أو القضاء على نسبة التشرد بين مواطنيها.. كلام أغلبه طبقي و ينطوي على كثير من القسوة، ما بين سجنهم من باب أن السجن سيوفر لهم مكان إقامة و طعام، و ما بين إرسالهم إلى الصحراء لتعميرها تحت إشراف الشرطة المحلية، و كان أكثر الآراء تطرفا هو التخلص منهم بالقتل .. فهؤلاء لن يفتقدهم أحد و اختفاؤهم لن يكون له سوى كل أثر إيجابي.. إذ أنهم عبء على المجتمع بالإضافة إلى تشويههم إياه.
في تلك اللحظة تذكرت قصة قصيرة مترجمة كنت قرأتها في طفولتي في إحدى مجلات أبي، كانت تحكي عن مجموعة علماء اجتمعوا ليطوروا نوعا من السم يدسونه في الخبز الذي يرسلونه لدول العالم الفقير لأنهم ما عادوا يحتملون هذا العبء من بشر كسولين لا ينتجون شيئا و يستهلكون فوائضهم التي يكدون في إنتاجها، و لا أدري من أين قفزت لذهني صورة الرجل ذي الأكياس و اختفاء المشردين و عودته كلما ظهروا.
في صباح اليوم التالي، حينما انتهى من توزيع الأكياس و ابتعد عن الحي، تمكنت من سرقة كيس أحد المشردين و هو نائم، هاتفت صديقة لي، طبيبة، كنت قد قصصت عليها شكوكي فطلبت مني إحضار عينة من الطعام لتحليلها.
على شاشة التلفزيون أصوات محمومة تنادي بالقضاء على المشردين بأقسى الطرق، قصص اغتصاب و تحرش و سرقة بالإكراه تنسب كلها إليهم .. هاتفي يرن، صوت صديقتي الطبيبة يؤكد حدسي في كلمات مقتضبة، سم بطيء المفعول.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق