الأحد، 20 سبتمبر 2015

الموت .. و فاطمة .. و أنا

الموت
"يقضم الموت أرواحنا على مهل .. فنحن لا نموت عند انتهاء الأجل .. نحن نموت رويدا رويدا، و حينما ينتهي الرمق الأخير يهمد حراك الجسد."

هكذا أخبرني جدي يوما حين سألته كيف نموت .. كنت قد سمعتهم يتحدثون عن موت أحدهم. 
من يومها صرت أطيل النظر إلى المرآة لا أنظر لشيء إلا عيني، فقد قيل لي أن العينين هما مرآة الروح، كنت أحاول أن أتعرف إلى مقدار التآكل الذي أتعرض له يوما بعد يوم. لم أكن أخاف بلوغ الرمق الأخير بقدر ما كان الفضول يدفعني لمحاولة اكتشاف سر الموت و إن كان يمكنني أن أمنعه من قضم أرواحنا.

كنت وقتها لم أبلغ بعد السابعة من عمري .. و كان جدي ربما لا يعرف سوى الموت المهيب الهادئ الذي يأتي على مهل .. لم يكن الموت وقتها وجبة يومية مباغتة .. كان الموت وقتها فرديا .. لا كموت اليوم جماعيا دمويا و قاسيا. ربما ﻷن الحياة وقتها كانت هادئة  فكان موتهم هادئا .. أما موتنا فهو صاخب صارخ قاس و عشوائي كحياتنا.
حينما كنت أطيل النظر إلى عيني في المرآة كنت أحاول أن أرى روحي و أن أرى الموت الكامن بداخلي يقرضها رويدا رويدا و كانت أمي كلما رأتني نهرتني .. ﻷن إطالة النظر في المرآة تصيب بالجنون .. مثلما حدث لخالتها فاطمة تلك الجميلة التي كانت تقضي يومها أمام المرآة لا يشغلها سوى جمالها، إلى أن ألقت جسدها عاريا في مياه النيل، و انتهت، و  حتى اليوم لا أحد يعرف ما الذي دفعها لموت فجائي، مخالف لموت ذلك الزمان، فوصموها بالجنون.  أو ربما هم يعرفون و لكنهم يتخذون من اتهامها بالجنون ستارا دون الحكي.

كنت أتحين لحظات انشغال أمي لأسرق لحظات أمام المرآة، و أعاود تأمل روحي و مراقبة مدى النقصان فيها. في تلك المرحلة من حياتي كنت قد قررت أن أصبح طبيبة حين أكبر .. لم أكن أعرف وقتها أن الطب بحور و تخصصات و لم أكن أعرف عن سعار المجاميع و معركة الثانوية العامة التي هي الخطوة الأولى في تحويل كل من مر بها إلى ترس يدور في ماكينة التعليم دون أن يتعلم .. استمرت تلك العادة معي حتى بلغت العاشرة من عمري .. حينها أدركت أنني لن أرى مقدار ما قُضم من روحي أبدا .. و لكنني أبدا لم أنس قول جدي و لم أنس خالة أمي التي تآكلت روحها بشكل متسارع فلم يأتها الموت على مهل.

بالطبع لم أصبح طبيبة و لكنني صرت صديقة .. ربما لأنني أدركت أن ما يقضم الأرواح هو الحزن، فقررت أن أحمل مع أصدقائي أحزانهم لأخفف وطأتها على أرواحهم .. و آثرت أن أحمل أحزاني وحدي .. ربما لأنني كنت أراها لا تستحق أن أحملها أحدا أو ربما كنت أخشى أن يسفهوا منها فتنجرح مشاعري، لست متيقنة الآن مما كان يدفعني وقتها للاحتفاظ بأحزاني لنفسي .. أما الآن فأنا أخبئ أحزاني عميقا بداخلي و أراقبها و هي تعمل حثيثا على إنجاز ما أردت.

رغم أن الموت حولي في كل مكان، إلا أن صوتا بداخلي أخبرني أنني سأموت كما مات الأقدمون، حينما تنتهي الأحزان من قضم روحي على مهل. حاولت مرارا و تكرارا أن أفهم كيف يعمل الموت و لِمَ يختار الأخيار منا و يترك الأشرار .. ربما لأن أرواحهم النقية لا تحتمل وقع العالم المادي التعيس الذي نعيشه.
حتى عشر سنوات مضت كان الموت يحافظ على طقوسه الهادئة المهيبة، ثم صار يتخلى عنها رويدا رويدا حتى صار موتا آخر، موتا ظالما مؤلما، يقتل بلا هوادة و لا رحمة، فصرنا نقيس مقدار المصيبة بعدد من ماتوا، و بعد وقت ليس بالطويل صرنا نحلل توجهات المقتول قبل أن نقرر أن نستشعر مصيبة الموت، فإن كان يشبهنا استغرقنا في حزن عميق، و إن كان مختلفا عنا بررنا موته بشره الذي كان يصيب الأخضر و اليابس. يجتاحني الخوف كثيرا مما نتغير إليه..
مات جدي، و لكنه بقي حيا بداخلي، كأنما كان يأبى أن يموت، فقرر أن يصير جزءً من حياتي، و في إحدى زياراته لي، و لأنه يرى أنني أشبهها كثيرا قرر جدي أن يحكي لي حكاية خالة أمي الجميلة "فاطمة".

فاطمة
أنت تشبهين فاطمة كثيرا، ربما لست بجمالها، و لكنك تملكين روحها، كأنما احتفظ النهر بروحها ليركبها بداخلك. إن فاطمة لم تنتحر كما يقولون، بل نحن من قتلناها. هكذا بدأ جدي حديثه، لم أعرف ماذا أقول و لكن الحزن في عينيه و ملامح وجهه كان باديا، شعرت لوهلة أنه يحكي لي الحكاية بدافع التطهر، لا ليشبع فضولي.

سمرت نظري على وجهه و حاولت ألا أبدي دهشة مما يقول، و استمر هو في الحكي بعد لحظة صمت.

أتعرفين، كانت فاطمة تحب الرسم، و القمر و السماء و السحاب و قوس قزح، أظنها كانت لتحب الشعر لو أنها كانت تعلمت القراءة. كانت طفلة شديدة الجمال، خفيفة الروح، و لكن ثقل الحزن قتلها. لم تكن روح فاطمة تستطيع العيش في سجن بلدتنا الصغيرة، لم تحتمل فاطمة أن تسجن داخل جدران البيت، أن تُحرَم الورق و الألوان لتتعلم أعمال المنزل. ألا ترى الشمس إلا بإذن .. ربما كان جمالها هو لعنتها في مجتمع يكره الجمال و يغار منه. أصر والدها أن يزوجها و هي لا تزال في الحادية عشرة من عمرها، و كان الزوج رجلا موسرا متعدد الزوجات يبلغ من العمر الكثير، ربما ستون عاما. لم تفهم فاطمة ما يعني أن تصير زوجة، كانت لا تزال صغيرة جدا بملامح بريئة و دقيقة. أفهموها أنها ستنتقل لبيت آخر لتصبح هي سيدته، فتخيلت أنها ستستعيد ألوانها و أوراقها و جولاتها في الحقول و مرحها مع الحيوانات الصغيرة. و لكن الزوج مات في ليلة الزفاف، حينما اصطحبها إلى داخل الحجرة وسط الزغاريد و الغناء، بعد قليل تعالت صرخاتها، ظن المنتظرون بالخارج أنها صرخات فض البكارة و لكنها كانت صرخات رؤيتها الأولى للموت.

عادت لبيت أبيها و ارتدت السواد في ذلك العمر المبكر، و منعت من الضحك. و صار الأسود هو لون أيامها، لأن الجميع صار يتعامل معها على أنها نذير شؤم، و صار أبوها قاسيا، و توقف عن تدليلها فصار لا ينعتها إلا بالبومة كلما رآها. انزوت فاطمة في حجرتها و صارت تنظر إلى نفسها في المرآة كثيرا، كانت تتمنى أن يصيبها نحسها فتموت و لكنها لم تمت، صارت تكبر إلى أن بلغت السابعة عشرة من عمرها. سبعة أعوام من التنكيل و سوء المعاملة من الجميع. و في ذلك اليوم، ارتدت ثويا مزركشا كانت قد سرقته من صوان أختها، و ألقت شعرها على ظهرها طويلا حرا غير مجدول، و تسللت حتى بلغت النهر، و هناك خلعت ملابسها حتى صارت كما ولدتها أمها و ألقت بجسدها إلى النهر و لم تعد إلا جثة هامدة بعد ثلاثة أيام من البحث.

كانت الدموع تنسل من عيني جدي على وجنتيه لتبلل لحيته ثم تتخذ طريقها إلى قميصه تاركة أثرها المتراكم على شكل بقعة كبيرة .. ثم أكمل، عرف الموت طريقه إلى فاطمة قبل أن تدرك فاطمة ما هي الحياة، أكلنا روحها بقسوتنا عليها .. جاءها الموت من بابنا.

لم أعرف أيضا ماذا أقول لجدي فربتُّ على كتفه و قبلت رأسه و مسحت دموعه بكفي. كان يبدو حزينا جدا.
و في اليوم التالي .. مات جدي. كنت وقتها في عمر فاطمة حين ماتت، و لكنني كنت أوفر حظا لأنني أعيش في المدينة الكبيرة.

أنـــــــا
ربما كان موت فاطمة هو الموت الصادم المروع الأول لجدي، و الذي أبقاه حزينا مطولا، ربما لم يتخلص من حزنه إلا حينما أخبرني القصة و بكى، لا أعرف لم قص عليّ أنا تلك القصة دونا عن باقي أحفاده، ربما لأنني أملك روحا تشبه روحها كما قال لي.

بعد حكايته تلك، تملكني إحساس غريب أنني على وشك الموت، رغم أنني لم أحزن و لم يأكل الألم روحي، كنت ما زلت صغيرة لا أحمل من هم الدنيا سوى امتحاناتي و مشاحناتي الدائمة مع أمي. و لكنني عشت و هأنذا أطفأت بالأمس شمعتي الخمسين و ما زلت على قيد الحياة رغم الحزن و الألم و الموت الذي صار خبرا يوميا، و صارت فجيعته تقاس بعدد الموتى أو القتلى إن شئت أن تسميهم.

 و لم يعد الموت يقضم الأرواح على مهل، بل صار نهما، يجتثها دون سابق إنذار أو توقع، صار الموت قتلا .. لم يعد هادئا مهيبا، بل صار مزعجا دمويا.

لا أدري ما الذي يذكرني اليوم بفاطمة و بجدي، ربما هو حنين لأيام تبدو لي الآن أنها كانت سعيدة، هي لم تكن كذلك بالنسبة لي حينها. ربما أفتقد جدي، فهو الوحيد الذي كان يملك حضنا يحتويني، و منذ مات لم يحتويني حضن سوى البحر.. ربما لأن متابعة الأخبار اليومية صارت عبئا يثقل روحي بمزيد من الحزن، ربما لأنني اعتدت وحدتي لدرجة صارت تؤرقني .. ربما لأن البشر صاروا أكثر قسوة .. يشمتون في الموت كأنه يصيب الآخرين و لا يصيبهم .. لم يعودوا يكترثون للظلم، و لم يعودوا يتساءلون هل من مات كان يستحق الموت؟ ، ألم يكن هناك من سبيل آخر سوى الموت؟، هل كان يمكن تجنب هذا الموت؟ لا شيء يثير تساؤلهم، لا شيء يؤلم ضمائرهم، هم راضون ما دام القاتل هو ممثل السلطة، هم راضون ما دام المقتول ليس من أقاربهم و لا أصدقائهم، هم سعداء ما دام المقتول ينتمي لمعسكر لا يتبنى أفكارهم أو لا يشاركهم ميولهم.

أنظر إلى المرآة أحيانا، كما كنت أفعل و أنا طفلة، و لكنني الآن أستجديها أن تخبرني أن ما بقي من روحي قليل، و أن الموت قضمها بسرعة.. لا حيلة لي يا جدي .. فالموت لم يخترني بعد، ربما ما زال لي دور عليّ أن أكملة، ربما بقيت لي ضحكات و دمعات لم أضحكها بعد و لم أسكبها بعد. ربما يجب عليّ أن أشتاق عناقك أكثر كي ألحق بك.
نعم بالأمس أطفأت شمعتي الخمسين يا جدي، صرت في عمرك حين زوجت أمي .. كنت تخشى أن تموت قبل أن تطمئن عليها. هأنذا في مثل عمرك وقتها، أعيش أيامي يوما بيوم، لا أفكر في غد لأنه صار احتمالا ضعيفا وسط حصار الموت. لا أعرف لم أخبرك بهذا الآن، ربما لأنك الوحيد الذي لن يضجر من سماعي.

أتعرف يا جدي؟ سأذهب غدا إلى صديقى البحر و سألقي لديه بكل تلك الأفكار و الهلاوس و سأترك له جسدي يحتضنه حتى يتساقط عني كل ألمي و قلقي و توتري، سأترك له جسدي يتلاعب به حتى يتسع صدري لنفس عميق يملأه و يريحني حين أطلقه بهدوء.. إلى حين ألقاك يا جدي تمنّ لي أن يتسع صدري لهذه الأنفاس.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق