الجمعة، 27 مايو 2011

القلم

             حين امتدت يدها الى القلم و سرت في ذراعها تلك الرعشة الجميلة التي كانت قد نسيتها.. تذكرت ما مضى من أيامها بعيدا عن ذلك الحبيب الذي تهجره و تعود اليه فينضم اليها و يتواصل معها دون أن يعاتبها على هجرانه كأنما هو يعلم تمام العلم أنها ما تهجره الا لتعود اليه متلهفة عطشى..

             قصتهما هي و القلم تمتد لأكثر سني عمرها ..فهما مرتبطان منذ أن تعلمت أن تخط اسمها بحروف متشابكة و بخط واضح، تلك كانت ميزتها عن أترابها، كانت الوحيدة التي تستطيع أن تكتب اسمها على كل أوراقها دون الحاجة الى الرمز الى نفسها بأي من الأشكال التي كان يستخدمها الآخرين للتمييز فيما بينهم. منذ ذلك الوقت البعيد و نشأت بينها و بين القلم علاقة حب غريبة رغم التشوه الذي أصاب به وسطى يدها اليمنى و ابهامه الا أنها أبدا ما تخلت عنه فقد ظل هو و الكتاب و البيان هم أوفى و أصدق أصدقائها في غالب أوقاتها الصعبة.. كان القلم هو المتنفس و الكتاب هو الملاذ و البيان هو صوتها الصامت.

             تكونت هي نتيجة لتلك الصحبة بشخصية مختلفة عن أترابها، كثيرا ما شعرت بالغربة و الوحشة بينهم، كثيرا ما تمنت لو تصبح مثلهم، حاولت أن تسطح فكرها أن تشغل رأسها بنفس الأمور التي تتحدث فيها و عنها صاحباتها، و لكنها فشلت، حبها الأول كان دائما يغلبها فيشدها الى ذلك العالم السحري الذي يريها اياه الكتاب فيزداد بيانها قوة و جزلا و ينسال من قلمها تعبيرا قويا عما يجول بخاطرها و يجيش بداخلها من أحاسيس بدأت تتكون دون أن تنذرها.. كانت قد اعتادت الوحدة و البعد عن من هم في سنها لأنها لا تستطيع أن تشبههم فكانوا ينبذونها.. آلمها ذلك كثيرا .. و كان القلم هو وسيلتها لاخراج ما بداخلها بأسلوبها الطفولي في البداية الجزل القوي مع الأيام..

             على أعتاب سني المراهقة اختلف الأمر بعض الشئ .. لم تكن قد استقرت لها صداقة سوى تلك التي تكونت مع القلم و الكتاب و البيان.. بدأت بعض الفتيات في التقرب اليها.. كن يشعرن أنها أكبر سنا و لكنها ليست كأمهاتهن لا تملكن سوى الصوت العالي لاسكات تساؤلاتهن.. كانت القراءة قد عودتها على استكمال الصور الناقصة للمواضيع و على وضع تصورات أقرب الى الحقيقة و الواقع عن كل ما تحمله السطور في طياتها.. فأصبحت هي الوسيلة لسبر غور أمور كثيرة لا يفهمنها.. و مع الوقت و نموهن أصبحت صديقة للكثيرات و قريبة منهن.. و حين بلغن سن الشباب كانت أكثرهن قدرة على تكوين علاقات مع الآخرين و على اختيار صداقاتها من الجنسين دون أن تقع في خطيئة الحب .. و لا أعني هنا أنها لم تحب و لكنها كانت تعرف كيف تحب و كيف تعبر عن ذلك الحب دون أن تقع في خطيأته مهما صغرت.. و هنا أيضا كانت هي الملاذ لصديقاتها و أصدقائها في علاقاتهم و كانت الناصح المرشد.. كانت علاقتها بالقلم قد توطدت الى حد أنه أصبح لسانها و صوت حالها دون أن يفضح سرها حتى لمن قرأ ما كتبت .. كانت قد اكتسبت قدرة كبيرة على التعبير عن كل ما يتحرك بداخلها من همس و صراخ دون أن تفصح.. و قد أعجبها هذا الغموض كثيرا.. و رغم كل هذا لم تنجح علاقة حب واحدة من علاقاتها رغم أن مشاعرها كانت صادقة و لكن يبدو أن أيا من رجالها لم يستطع أن يفهمها.. لم يستطع أن يكتشف الجمال المختبئ خلف المظهر الجامد المتشدد.. لم يستطع أن يكتشف الدلال و الغنج المستتر حتى لا تراه العيون المتلصصة.

             أوصلت كل صديقاتها الى بيوتهن.. كل منهن لها زوج و بيت و لا زلن يلجأن اليها حين يحتجن فيما عدا ذلك فلكل منهن حياتها و مشاغلها التي تمنعها عن الظهور و لو بمكالمة تليفونية ............ !!!!!!
مع الوقت تباعدت المكالمات .. و اختلطت الأصوات و الصور .. انتابتها حالة من اليأس و الخوف و الضياع فألقت بقلبها و روحها الى ماكر حاك حولها شركا و هي في أضعف حالاتها.. أحبته و عذبها بحبها له طويلا.. حاولت كثيرا أن تنجو من حبائله و كلما تحركت التفت الخيوط حولها أكثر فأكثر .. توقفت لوقت عن المقاومة و استسلمت لفكرة أنه هو الحبيب و لكن استسلامها جعله يمعن في تعذيبها و ايذائها.
 أمضت ليال طويلة تبكي و تتألم و هو لا يشعر بها .. أحرقت الدموع وجنتيها و أرهق الألم روحها و توقف قلمها عن الانسياب.. مرضت مرضا طويلا انتزع منها أياما كان يجب أن تستمتع بها.. في مرضها عادها صديق .. كان في البداية ينظر اليها دون أن يتكلم .. كأنما كان يتفحص الشرك ليعرف كيف يخرجها منه .. و في يوم كانت قد بلغ بها الألم ذروته رأت يده ممتدة نحوها .. فشلت في أن تلمسها أكثر من مرة و لكن ارادة تكونت بداخلها .. ثورة تفجرت بركانا جعلتها تمسك يده و لا تفلتها .. و ظل هو قابضا على يدها لا يفلتها حتى أخرجها.. كانت خيوط الشرك قد تركت آثارها على كل أجزاء جسدها و هد الألم قواها و أضعفها.. ضمد جراحها .. و ساندها.. كان الدواء مؤلما في غالب أحيانه و لكن ارادتها و ارادته كانتا أقوى من الألم .. دفعها دفعا نحو الشفاء .. و ها هي الآن تمسك بالقلم لتعود الى ذاتها لتتحد مع نفسها مرة أخرى .. حين سرت رعشته في يدها أحست أن روحها ارتدت اليها و أنها الآن أقوى و أقدر .. و.. أكثر خبرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق