الجمعة، 2 مايو 2014

ذاكرة المدينة


كما أن للإنسان ذاكرة ، فالمباني هي ذاكرة المدن و الشاهد على ما أصاب إنسانها من تطور و تدهور. و في ظني أن العمارة المعتَمَدة في زمن ما قد تشكل وجدان أهل هذا الزمن و قد ترتقي بذوقهم أو تنحدر به، فالإنسان لا يُبنى فقط بما يتعلم و يقرأ، بل يتربى بالقيم التي يستقي عمدا أو بشكل عفوي طوال حياته.
 فالإنسان الذي تربى في بيئة تهتم بالجمال كقيمة بادية في مبانيها و شوارعها في الغالب سيتشرب بهذا الجمال و ينعكس على تفضيلاته و سلوكه و أخلاقه.

و كلما قلت مظاهر الجمال من حولنا كلما اختنقت أرواحنا و افتقرت و فقدت حسها الجمالي و زادت قسوتها.

كلما نظرت إلى المباني التي بُنيت منذ نهايو الخمسينات من القرن الماضي ، أتذكر رواية " أوقات عصيبة" لتشارلز ديكنز حينما كان السيد "جرادجريند " يصر على أن يتجرد الأطفال من الخيال و لا يذكرون سوى الحقائق ، الحقائق فقط .. تلك البنايات الأشبه بالصناديق النتراصة فوق بعضها البعض هي أقوى تمثيل لتجريد البيوت من الجماليات و تحويلها إلى ما يؤدي الغرض منها و فقط ، حواءط و أسقف و شبابيك تصلح لإيواء البشر، و فقط.

في بعض شوارع الإسكندرية تتقابل المباني من عصور مختلفة، ستجد في مربع واحد بنايات اهتم منشؤها بتفاصيل الجمال في كل ركن و بنايات أخرى لا تعدو أن تكون أحجارا متراصة فوق بعضها البعض لتصنع صندوقا ملائما لعيشك بداخله ، و بنايات ثالثة تمتد إلى عنان السماء معلنة تحديها لكل المباني التراثية و متحدية قدرات المدينة على ضخ المياه و الكهرباء و تصريف المخلفات، و جاثمة على صدرك كأنها كابوس يصر أن يحرمك النوم الهادئ.

الصور التالية أغلبها لبوابات و واجهات مبان توشك على أن تهدم عمدا ليقوم مكانها عملاق خرساني من عشرين طابق أو أكثر، يحجب عنا السماء و القمر و الشمس و السحاب، و يحرمنا الهواء. و قد يحرمنا الحياة بعد بضع سنوات ليست بالكثيرة حينما ينهار إما لأن التربة لم تحتمله و إما لأن الأساسات أضعف من أن تحمل بيتا بهذا الارتفاع.

تلك المباني الجميلة تتآكل لصالح الأبراج الشاهقة، و لا أحد يكترث سوى قلة من المهتمين بالحفاظ على التراث المعماري للمدينة.

رويدا رويدا ستمحى ذاكرة المدينة و تحل محلها ذاكرة أخرى شائهة بلا هوية، ذاكرة تغلب عليها القيمة المادية و تختفي فيها قيمة الجمال. رويدا رويدا ستتغير ملامح شوارعنا التي عرفنا و سنصير غرباء، و مع الوقت سندور في شوارع المدينة باحثين عن مبنى أو بوابة أو شرفة مما عرفنا و لن نجد؛ من أجل هذا اليوم علينا جميعا أن نوثق قدر استطاعتنا تلك المباني بالصور و المعلومات -إن أمكن- علها تكون ملاذنا في لحظات الحنين الجارفة و تكون دليلنا على أننا يوما كانت لدينا مدينة جميلة نحبها.





























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق